بسم الله الرحمن الرحيم
القوائم الملكية للعصر العتيق بين معنى عبادة الأسلاف و مفهوم التاريخ
يتناول هذا المقال مفهوم و مغزى كتابة و تسجيل القوائم الملكية خلال العصر العتيق و لأول مرة في الحضارة المصرية القديمة و التي كانت تعتبر إحدى الإنجازات الحضارية المبكرة لمفكري البلاط الملكي في ذلك العصر . و عند تناولنا لهذه القوائم الملكية ينبغي أن نميز بين نوعين أو شكلين أو مجموعتين مختلفتين و هما :
1 – المجموعة الأولى لهذه القوائم هي عبارة عن تدوين سلسلة من الملوك المتتابعين الذين تم تسجيلهم من جانب ( كاتب واحد ) في ( لحظة زمنية واحدة ) ، حيث سعى الكاتب هنا لوضعهم جميعا في إطار ( بوتقة أو مجموعة واحدة ) . و نحن هنا نمتلك ثلاث أمثلة توضح هذه الحالة و هي :
أ – طبعة ختم أم الجعاب ( في أبيدوس ) الملكية ، و التي ذكرت الأسماء الحورية للملوك الخمس الأوائل الذين حكموا مصر خلال الأسرة الأولى و دون أن تضع أسمائهم داخل السرخ و تبدأ بالملك ( نعرمر ) ثم ( حور عحا ) و ( جت ) و ( جر ) و أخيرا ( دن ) فضلا عن وجود الأم الملكية ( مر نيت ) التي ذكر إسمها في خاتمة الصف الأفقي لهؤلاء الملوك .
يمكن لنا أن تسشف بعض الملاحظات الهامة و هي :
1 – إعتبر البعض وجود الملك ( نعرمر ) في هذه القائمة كدليل على أنه أول ملوك الأسرة الأولى و ليس آخر ملوك الأسرة صفر كما رأى فريق آخر .
2 – تعتبر هذه القائمة هي أقدم قائمة ألقاب ملكية في الحضارة المصرية القديمة .
3 – لماذا لم تبدأ طبعة ختم أم الجعاب بالملك ( العقرب ) ؟ و هو الملك السابق مباشرة ( لنعرمر ) بالرغم من إنتشار آثاره في مصر كلها ، الأمر الذي يرجح وجود سيطرة كاملة لهذا الملك على القطرين مثلما يرى فريق من الباحثين فضلا عن وجود مقبرته في الجبانة الملكية لأم الجعاب . و على النقيض من ذلك ترى مجموعة أخرى من الدارسين أن ( العقرب ) لم ينجح في بسط سيطرة كاملة و نهائية على البلاد خلال الأسرة صفر و من هنا لم يتم وضعه في هذه القائمة ب – طبعة ختم أم الجعاب الملكية الثانية و التي ذكرت أيضا الأسماء الحورية لملوك الأسرة الأولى الثمانية و بدون أن تؤطرهم في السرخ و هم : ( نعرمر ) و ( حور عحا ) و ( جر ) و ( جت ) و ( دن ) و ( عنج إيب ) و ( سمرخت ) و ( قاعا ) . تكشف هذه القائمة الملكية عن ملمحين هامين و هما :
1 – لم تدون هذه القائمة إلا مع بداية الأسرة الثانية و لاسيما و أنها إكتشفت في مقبرة الملك ( قاعا ) آخر ملوك الأسرة الأولى أي أن طبعة الختم لم توضع في المقبرة إلا بعد وفاة هذا الملك و ربما أثناء إقامة شعائر الدفن الخاصة به .
2 – تجاهلت هذه القائمة أسماء ثلاث ملوك – على أقل تقدير – ينتمون للأسرة الأولى ، و هو ( سخت ) و ( كا ) و ما تعارف عليه الدارسون بإسم الملك ( الطائر ) حيث عثر على آثار مؤكدة بإسمهم في جبانة شمال سقارة و بألقابهم الحورية الأمر الذي يقطع بوجودهم و حكمهم للبلاد كما يكشف ذلك الأمر من جانب آخر وجود حالة صراع على العرش خلال عصر الأسرة الأولى .
ينبغي أن نشير لأمر هام : سجلت طبعتا ختم أم الجعاب صورة و إسم المعبود ( خنتي إمنتيو ) – بمعنى أول الذين في الغرب - على هيئة إبن آوى الجالس و الذي كان يعتبر حامي و رب الجبانة الملكية الأول الذي ينصهر و يتحد به جميع الملوك و لاسيما في العالم الآخر أو بمعنى أدق هو ( الصورة الأسطورية للملك الميت ) و ذلك في مقابل المعبود حورس ( الصورة الأسطورية للملك الحي ) ، حيث وردت صفات و وظائف متعددة لهذا المعبود قامت بشرحها متون الأهرام في فترة تاريخية لاحقة تمثلت فيما يلي :
1 – ذكرت الفقرة رقم 556 من نصوص الأهرام أن قدمي و ذراعي الملك هما قدمي و ذراعي إبن آوى و من خلال هذا التوحد يتمكن الملك من القيام من رقدته فينهض و يبعث من جديد .
2 – ذكرت الفقرة رقم 665 أن الملك يمنح له إسم ( إبن آوى ) و يجلس على عرش المعبود ( خنتي إمنتيو ) ، و عندئذ تصبح أبواب المقبرة مفتوحة له فيعثر على رزقه الوفير ( القرابين ) الذي ينتظره
3 – ذكرت الفقرة رقم 438 أن العظيم ( و هو الملك ) يجلس على عرش المعبود ( خنتي إمنتيو ) و من خلال ذلك يتمكن الملك من إستلام قرابينه من معبد ( خنتي إمنتيو ) فقرابين الملك هي ذاتها قرابين ( خنتي إمنتيو )
4 – ذكرت الفقرة 441 أن من قام بصنع و عمل قربان الملك هو المعبود ( خنتي إمنتيو ) و بفضل ما صنعه له تمكن الملك من الصعود تجاه النجوم التي لا تفنى ( الآلهة الشمالية ) التي تقع في السماء الشمالية و هو الأمر الذي يعني ربط عبادة إبن آوى بالعبادة النجمية خلال ذلك العصر المبكر .
5 – ذكرت الفقرة رقم 674 أن وجه الملك هو وجه إبن آوى و أن الملك يتطهر في العالم الآخر كشرط ضروري و لا غناء عنه لكي يجلس على عرش المعبود ( خنتي إمنتيو ) في معبده
6 – ذكرت الفقرة رقم 677 أن هيئة الملك خفية مثل خفاء إبن آوى و أن وجه الملك هو وجه إبن آوى الذي يرفع نفسه من رقدته فيتسلم قرابينه المتعددة .
ج – تمثال الكاهن ( حتب دي إف ) و الذي ربما يرجع لنهاية عصر الأسرة الثانية أو بداية الأسرة الثالثة و قد تم إكتشافه في جبانة سقارة و هو حاليا في المتحف المصري ، كشف عن الألقاب الحورية لأول ثلاث ملوك من الأسرة الثانية بشكل تتابعي و هم ( حتب سخموي ) و ( رع نب ) و ( ني نتر ) و قد وضعت أسمائهم جميعا داخل السرخ و ذلك على النقيض من طبعتي ختم أم الجعاب السابق ذكرهما .
كشف تمثال حتب دي إف عن سمتين بارزتين و هما :
1 – إنتقال أول ملوك الأسرة الثانية ( حتب سخموي ) للدفن في جبانة سقارة و لاسيما و أن هذا التمثال عثر عليه هناك و ذلك على النقيض من ملوك الأسرة الأولى الذين دفنوا جميعهم في جبانة أم الجعاب في أبيدوس مما إستلزم وجود كاهن مقيم في تلك الجبانة لإقامة شعيرة عبادة هؤلاء الملوك في الجبانة الملكية الجديدة
2 – إرتباط اللقب الحوري لثاني ملوك الأسرة بإسم رب الشمس رع و الذي يتمثل في ( رع نب ) بمعنى أن رع هو الرب أو السيد مما يؤكد على إزدياد نفوذ العبادة الشمسية في تلك الفترة و وجود حاجة ماسة لربط و دمج المعبودين ( حور ) و ( رع ) ببعضهما البعض كما يمكن لنا أن نؤكد أن الشخص المعني هنا بهذا اللقب هو الملك ذاته ، فالملك حورس هو ( رع ) الرب المطلق للبلاد .
يتبين لنا من هذه الحالات الثلاث السابقة ( طبعتا ختم أم الجعاب و تمثال الكاهن حتب دي إف ) أن هذه القوائم الملكية إرتبطت بمجال إقامة شعائر جنائزية تمثلت في تقديس و عبادة الملوك الأسلاف سواء في جبانة أم الجعاب في أبيدوس أو جبانة سقارة .
2 – أما عن المجموعة الثانية لهذه القوائم الملكية فهي لم تكتب من جانب كاتب واحد فقط مثل المجموعة الأولى ، بل هي أسماء ملوك سجلت ( عصرا تلو الآخر ) – أي في لحظات زمنية مختلفة - و بجوار بعضها البعض و من جانب ( أكثر من كاتب ) بهدف تسجيل ملكية الملك الحاكم بتدوين إسمه على الشيء المملوك أو الشيء الذي يخصه . و هنا يمكن القول بأن هذه المجموعة تعتبر قوائم ملكية فعلية لسببين بارزين و هما :
أ – أن الكتبة الذين سجلوا أسماء الملوك عصرا تلو الآخر على هذه الآثار ( و لاسيما الأواني الحجرية ) وضعوا هذه الأسماء بجوار بعضها البعض في خط أفقي واحد و منظم كما أن الكتبة اللاحقين لم يقوموا بإلغاء أسماء الملوك السابقين بل أضافوا عليها أسماء الملوك اللاحقين لهم الذين إنتقلت إليهم ملكية ممتكات الملوك الأسلاف
ب – معظم هذه النوعية من القوائم الملكية تم إكتشافها أسفل الهرم المدرج للملك ( زوسر ) حيث دونت على أواني حجرية كانت في الأصل مملوكة لملوك العصر العتيق و الأسرة صفر مما يرجح أن الملك ( زوسر ) قد نظر إليها بوصفها ( قوائم ملوك الأسلاف ) التي دونت أسمائهم على آثارهم و ممتلكاتهم المقدسة ، الأمر الذي شجع الملك ( زوسر ) على تجميعها من منشآت دينية سابقة زمنيا ( ربما كانت هذه الأواني موجودة في المجموعات الجنزية لهؤلاء الملوك ) و وضعها أسفل مقبرته الملكية بهدف إضفاء الشرعية السياسية و الدينية للملك الحاكم ( زوسر ) بوصفه وريث آثار و ممتلكات السلف و إلى هنا يمكن لنا أن نرصد حقيقتين هامتين في هذه القوائم تمثلتا فيما يلي :
1 - إختلفت هذه النوعية من القوائم الملكية عن المجموعة الأولى ، حيث سجلت فيها أسماء الملوك باللقب ( الحوري ) و لقب ( النسوبيتي ) أو اللقب ( النبتي ) و ذلك على النقيض من المجموعة الأولى التي إكتفت بذكر الألقاب الحورية فقط
2 – دونت هذه الألقاب الملكية على ممتلكات سابقة ربما إعتبرت كجزء من الأثاث الجنائزي للملوك السابقين فتم نقلها من مقبرة ملكية إلى أخرى بهدف تثبيت شرعية الملك اللاحق أو ربما كانت هذه الممتلكات ( الأواني ) كانت أدوات طقسية أو شعائرية إستخدمت في مجموعاتهم الجنائزية و نقلت في عصر الملك الللاحق لمجموعة ملكية أخرى إلى أن قام ( زوسر ) بتجميعها في مقبرته الملكية لنفس الهدف السابق ذكره
و معظم هذه النوعية من القوائم الملكية معروضة في المتحف المصري و من أهم الأمثلة عليها نجد ما يلي :
1 – آنية حجرية إكتشفت أسفل الهرم المدرج و سجل عليها اللقب الحوري للملك ( سمر خت ) – و هو الملك قبل الأخير من ملوك الأسرة الأولى طبقا لكاتب طبعة الختم الملكية الثانية المكتشفة في مقبرة الملك قاعا في أم الجعاب – و اللقب الحوري للملك ( قاعا ) – الذي يعتبر آخر ملوك الأسرة الأولى وفقا لنفس طبعة الختم السابقة
2 – آنية حجرية أخرى إكتشفت أسفل الهرم المدرج و سجل عليها اللقب الحوري للملك ( حوتب سخموي ) – أول ملوك الأسرة الثانية طبقا للترتيب الذي تم تدوينه على تمثال الكاهن حتب دي إف السابق ذكره – و اللقب الحوري للملك ( رع نب ) – ثاني ملوك الأسرة الثانية وفقا لنفس الترتيب السابق ذكره على نفس التمثال .
و من دراسة المجموعتين الأولى و الثانية لهذه الألقاب الملكية يتبين لنا نتائج في غاية الأهمية تمكن الباحث من رصدها و هي :
1 – إتفقت معظم هذه القوائم الملكية التي تعود زمنيا للعصر العتيق أن الملك ( قاعا ) هو آخر ملوك الأسرة الأولى ، فلا يتم تسجيل إسم أي ملك بعد عصره على الإطلاق .
2 – أن تمثال الكاهن حتب دي إف و بعض الأواني الحجرية الأخرى التي إكتشفت أسفل الهرم المدرج إتفقت على ترتيب أسماء الثلاث ملوك الأوائل للأسرة الثانية بالشكل التالي : ( حوتب سخموي ) و ( رع نب ) و ( ني نتر ) و أنه لا وجود لذكر إسم أي ملك بعد عصر ( ني نتر ) ثالث ملوك الأسرة الثانية ، الأمر الذي يرجح وجود نزاع و صراع عنيف على العرش داخل البيت المالك منذ النصف الثاني لعصر الأسرة الثانية و هو ماكان سببا مباشرا ترك تأثيره على كتابة الأسماء الملكية اللاحقة لذات الأسرة حيث لم يكن هناك إتفاق واضح بين مفكري البلاط الملكي على ترتيب هذه الأسماء و ربما يعود ذلك لعدم إستقرار الشعائر الجنائزية الخاصة بعبادة ملوك النصف الثاني لعصر الأسرة الثانية ، فلو كانت شعائر هؤلاء الملوك قد إستقرت ، لأصبح تتابعهم و ترتيبهم أمرا واضحا لدى أهل الفكر و الدين في تلك الفترة و ما يؤكد ذلك الترجيح السابق هو عدم إتفاق المصادر الملكية اللاحقة – و لاسيما بردية تورين و تاريخ مانيتون – على أسماء و تتابع ملوك النصف الثاني من عصر الأسرة الثانية حيث يظهر لنا تضارب واضح بين القوائم اللاحقة .
3 – لا تبدأ أي قائمة ملكية - من المجموعتين - ترجع لعصر الأسرة الأولى بإسم ملكي يسبق إسم ( نعرمر ) و هو الأمر الذي يشير إلى أن جميع كتبة القوائم الملكية للعصر العتيق إعتبروه ( نقطة بداية مطلقة للملكية ) حيث تميز هذا الملك وفقا للعديد من الدارسين بعملين مميزين و هما :
أ – هو أول ملك يتم تصويره على الآثار و هو يقوم بضرب الأعداء و إعلان الإنتصار عليهم .
ب – هو أول ملك يظهر في صلايته و هو يرتدي تارة التاج الأحمر – تاج الشمال – و التاج الأبيض – تاج الجنوب مما يعني إكتمال خطوة توحيد البلاد سياسيا و نهائيا في عصره و لاسيما في الفترة التي تعارف عليها الدارسون بالأسرة صفر . و من هنا إعتبر من جانب فريق من الدارسين أنه المؤسس الفعلي للأسرة الأولى و ليس آخر ملوك الأسرة صفر كما يرى فريق آخر من الباحثين .
و من جانب آخر هناك تصور من جانب بعض الدارسين بأن تسجيل إسم الملك ( نعرمر ) على بعض الأواني الحجرية المكتشفة أسفل الهرم المدرج تشير إلى أن الملك ( زوسر ) إعتبر سلفه القديم ( نعرمر ) هو المؤسس الفعلي و الأول لملكية مصر و لاسيما و أن إسم الملك ( نعرمر ) هو أقدم إسم ملكي مكتشف أسفل الهرم المدرج
لا يتفق صاحب هذه الدراسة حول الأسباب السابقة التي ذكرها و إتفق عليها معظم الباحثين لإختيار نعرمر كنقطة بداية للملكية المصرية للإعتبارات التالية :
أ – لم يكن الملك نعرمر هو أول ملك مصري يتم تصويره و هو يقوم بضرب الأعداء و يعلن الإنتصار عليهم فقد سبقه عدد آخر من الزعماء أو الملوك السابقين الذين تم وضعهم في إطار ما يعرف بالأسرة صفر
ب – لم يكن هو أول ملك يظهر بتاج الجنوب و تاج الشمال فقد سبقه في ذلك الملك العقرب و هو الملك الذي سبقه مباشرة في الحكم .
ج – لم يكن إسم الملك نعرمر هو أقدم إسم ملكي مكتشف أسفل الهرم المدرج ، بل سبقه في ذلك إسم الملك ( كا ) و هو الملك الذي تولى مقاليد البلاد قبل ( العقرب ) كما ظهر على آنيته المكتشفة أقدم تقسيم إداري ملكي معروف للجنوب و الشمال حيث يظهر رمز الجنوب – نبات السوت – مع رمز الشمال – النحلة بيتي .
د – لا تعتبر صلاية نعرمر تسجيل لأحداث تاريخية كما كان يعتقد عدد كبير من الدارسين ، بل هي صلاية تندرج في إطار شعائري ديني و قد ناقش الدارس هذه القضية في أكثر من مقال سابق و من هنا فلا ينبغي إتخاذها كدليل قاطع على قيام الوحدة المصرية و إكتمالها في عهد ذلك الملك .
و لذلك لا يمكن التأكيد على أن نعرمر هو أول من إكتملت الوحدة السياسية على يديه و لكن ربما كان من الأجدر لهذه الدراسة أن تضيف شيئا هاما و هو :
التفريق و التمييز بين مفهوم إكتمال الوحدة السياسية المجهول و الغامض حتى بالنسبة للمصري القديم نفسه و بين مفهوم إختيار مؤسس أول للملكية المصرية بصرف النظر عن أن هذا الملك هو المؤسس الفعلي و الأخير لوحدة البلاد السياسية ، فهناك حاجة عقائدية شعائرية ماسة من جانب البلاط الملكي لتحديد نقطة بداية للملكية و لكن و من ناحية أخرى لا ينبغي أن نتجاهل الغموض المصاحب لإختيار نعرمر من جانب الكهنة كنقطة بداية لهذه الملكية .
4 – لا نلاحظ على الإطلاق في أي من قائمة ملكية ترجع للعصر العتيق سواء من من المجموعة الأولى أو الثانية تربط أو تجمع بين آخر ملك من الأسرة الأولى و أول ملك من الأسرة الثانية ، فلا يجتمع كل أو بعض ملوك الأسرة الأولى مع كل أو بعض ملوك الأسرة الثانية في قائمة ملكية واحدة ، فلا نجد إسم ( قاعا ) – آخر ملوك الأسرة الأولى – مقترنا بإسم ( حوتب سخموي ) – أول ملوك الأسرة الثانية كما نلاحظ من ناحية أخرى أن طبعة ختم أم الجعاب الثانية جمعت بين جميع ملوك الأسرة الأولى في بوتقة ملكية واحدة و عند تدوين إسم آخر ملك فيها ( قاعا ) تتوقف عند هذا الحد و لا يعقبها إسم مؤسس الأسرة الثانية ( حوتب سخموي ) مما يشير إلى حقيقة هامة هي :
أن فكرة وضع ملوك محددين في إطار أو خط ملكي واحد و هو ما يعرف بمفهوم الأسرة الملكية هو من إنجازات العصر العتيق و لم يكن من إبتكار وثائق و مصادر العصور اللاحقة مثل بردية تورين و تاريخ مانيتون .
و لعل التساؤل الذي يتبادر للأذهان هو : هل هذه القوائم الملكية التي دونت خلال العصر العتيق تمثل وثائق أو مصادر تاريخية ؟
مما لاريب فيه أن هذه القوائم تعكس وجود شعور قوي بالماضي لدى المصري القديم في تلك الفترة و لكن عن أي ماضي نتحدث ؟ و ما هو المقصود بالماضي في هذه القوائم ؟ و ما هو المعنى الذي تفصح عنه هذه القوائم الملكية ؟ و هل لها معنى تاريخي ؟ و هل يمكن إعتبار هذه القوائم دليل مبكر على معرفة و دراية المصري القديم بمفهوم فن كتابة التاريخ ؟
يعتقد الدارس أن طرح بعضا من هذه التساؤلات و لاسيما تلك التي تتعلق بمفهوم التاريخ يعكس وجود أزمة في فكرنا الثقافي المعاصر ، فنحن هنا نصر على محاكمة و تقييم المصري القديم بمعايير عصرنا التي تختلف جذريا عن معايير عصره ، فهناك خلط واضح بين إحتياجات و دوافع المصري القديم لهذا النوع من الكتابة و بين إحتياجات و دوافع الإنسان المعاصر للكتابة في العصر الحالي و هو الأمر الذي أدى لوقوع الدارس نفسه – صاحب المقال - في مغالطة إبستمولوجية ( علمية ) في دراسات سابقة له تمثلت في النتيجة التالية و هي : أن المصري القديم لم يكن لديه أي دراية بمفهوم كتابة التاريخ و هي بلاشك نتيجة خاطئة و غير صحيحة ، فهي نتاج تحكيم معايير عصرنا على الحضارة المصرية القديمة . و لاشك أن الدارس قد تأثر بشكل كبير بعقلية و ثقافة العديد من علماء المصريات الغربيين – و لهم كامل التقدير و الإحترام – الذين حكموا على مفهوم الكتابة لدى المصري القديم وفقا لمعايير ثقافتهم إلا أن هذا الأمر لايعفي الباحث من هذا الخطأ ، فكان لزاما عليه أن يقوم بمراجعة و تمحيص أي نتيجة بالقرائن العلمية القاطعة مهما بلغ شأن صاحبها .
ماذا نقصد بمفهوم التاريخ في عصرنا الحالي ؟ هناك سمات رئيسية عامة لمفهوم التاريخ في العصر الحالي تتمثل فيما يلي :
1 – يجنح مفهوم التاريخ في عصرنا الحالي نحو إبراز الأحداث الفريدة و التي أدت لوجود نتائج جديدة على مر الزمن
2 – يتجه المؤرخ في عصرنا الحالي إلى تسجيل الوقائع و الأحداث التاريخية – بصرف النظر عن مدى مصداقيته في التناول لما يكتب – بهدف نقلها للأجيال اللاحقة فلا يتم نسيانها على الإطلاق و لا تنمحي أبدا من الذاكرة البشرية .
3 – أن المستقبل ( بضم الميم و كسر الباء ) لهذه الأحداث هو العنصر البشري ، فالغرض من الكتابة هو إعلام الجنس البشري اللاحق لما أنجزه الجنس البشري السابق .
إختلفت دوافع المصري القديم للكتابة عن دوافعنا الحالية ، فقد تميز مفهوم الكتابة لديه بما يلي :
1 – كانت الأحداث من منظوره الفكري الخاص هي تلك التي وقعت في زمن الآلهة أو في زمن أول عتيق عاشت فيه الآلهة الأوائل و قامت بعمل الوقائع و الأحداث الأولى التي وضعها المصري القديم في إطار نموذج ديني مقدس إعتبره النموذج الأصلي و الأول لكل فعل ، فكانت جميع الأفعال و الحوادث و الوقائع إعادة أو تكرار لذلك النموذج الديني الأول ، مما يعني أن التاريخ – إن جاز لنا إستخدام هذا التعبير و إقحامه في ثقافة المصري القديم - من وجهة نظره ينبغي أن يطابق طراز السلف الأول ، فالملك يعيد ما صنعه الآلهة الأوائل ، كما يقوم الملوك اللاحقين بتقليد الملوك السابقين في أفعالهم بوصفهم من الملوك الأسلاف المؤلهين ( على سبيل مثال : الملك رمسيس الثالث و إقتدائه بالملك رمسيس الثاني في معظم أفعاله ) و يمكن القول أنه بسبب تقليد الملك الخلف لأفعال الملك السلف و إقتدائه به كنموذج يحتذى به أن نجد ذلك الملك الخلف و هو ينتحل لنفسه آثار السلف فيكتب إسمه عليها دون أن يكشط إسم من سبقه و دون أن يعتبر ذلك إغتصاب أو تعدي على آثار السلف وفقا لمعايير لعصرهم أو يمكن له أن يمتلك آثار الأسلاف المقدسة و يضعها في منشأته الدينية الجديدة كنوع من إضفاء الشرعية على حكمه فمن يمتلك آثار الأسلاف أو يكتب إسمه عليها هو ملك شرعي على البلاد .
2 - لم يكن الهدف من الكتابة لدى المصري القديم مجرد حفظ الأحداث من النسيان ، بل الهدف هو إعادة الإحتفال بأحداث دينية و سياسية قديمة لمرات و مرات عديدة بدمجها بذلك النموذج أو الطراز الأول حتى تؤطر في ذاكرة الخلود فالهدف هو المغزى الأبدي و ليس المعنى المؤقت و الزائل و من هنا ندرك و نفهم لماذا كان المصري القديم يستنسخ منظر إنتصار الملك على الأعداء من عصر لآخر دون أن يدل ذلك بالضرورة على وقوع هذا الحدث في عصر الملك الذي إستنسخ هذا المنظر ، فالهدف هنا : إعلان الإنتصار الأبدي للملك على الأعداء و ليس تحديد واقعة محددة حدثت في ذلك العصر أم لا فالحدث هنا يتجاوز الزمان و المكان و ذلك هو مفهوم التاريخ – إن جاز لنا إستخدام هذا التعبير - لدى المصري القديم .
3 – لم يكن المستقبل ( بضم الميم و كسر الباء ) الرئيسي لهذه الأحداث المسجلة لدى المصري القديم هو العنصر البشري ، بل كان المستقبل لها هو الآلهة ذاتها نظرا لأن هذه الوقائع سجلت على آثار تم إكتشافها في معابد أو مقابر ، فالهدف الرئيسي هنا يتخطى مفهوم إعلام البشر بما حدث بل يتجه نحو إخبار الآلهة عن ماوقع و بالتالي تؤطر هذه الإنجازات في دائرة أبدية لاتزول على الإطلاق ، و من هنا يمكن ترجيح النتيجة التالية و هي : أن هذه القوائم الملكية قد كتبت لأجل أغراض طقسية شعائرية تتعلق بتثبيت مجموعة من الملوك الشرعيين و هي لم تكن في المقام الأول مادة للعرض أمام الجمهور فكان التاريخ هنا يتم كتابته من أجل تثبيته في عالم الآلهة .
4 – لم يكن الهدف من كتابة هذه القوائم الملكية التي دونت في العصر العتيق هو تذكر هؤلاء الملوك و لا تحديد أسماء الملوك الفعليين الذين حكموا البلاد و لا معرفتهم بكينونتهم الحقيقية بل كان الهدف هو تسجيل أسماء الملوك الأسلاف لأجل عبادتهم و تقديسهم فهم الملوك الذين إستحقوا هذه العبادة لأن أفعالهم تطابقت مع النموذج و الطراز الأول لأفعال الآلهة الأوائل التي حكمت مصر في زمن عتيق و كان ذلك هو مفهوم التاريخ لدى المصري القديم .
5 – كشفت لنا طبعتا ختم أم الجعاب السابق ذكرها أن أسماء ملوك الأسرة الأولى إرتبطت بمعبودين و هما : حورس رب الملكية في عالم الدنيا و خنتي إمنتيو – أول الذين في الغرب – رب الملكية في العالم الآخر و بمعنى أدق أن المعبود حورس يمثل هنا السلف الملكي الأسطوري الأول الذي حكم مصر في عالم الدنيا في زمن عتيق و الذي يتشبه و يتحد به جميع ملوك الأسرة الأولى أما المعبود خنتي إمنتيو فهو السلف الملكي الأسطوري الأول الذي حكم مصر في العالم الآخر في زمن عتيق ، فاتحد و إنصهر فيه جميع ملوك الأسرة الأولى . إن ثنائية ( الملك السلف الدنيوي - حورس ) و ( الملك السلف الأخروي – خنتي إمنتيو ) ستبلغ الذروة خلال النصف الثاني من عصر الدولة القديمة بتحول حورس رب الملكية القديم إلى حورس إبن المعبود أوزير ، فحورس القديم لم يكن له أدنى علاقة بحورس إبن أوزير الذي ظهر في فترة لاحقة و لكنه البذرة الأولى التي مهدت لظهوره فيما بعد ، كما سيتحول المعبود خنتي إمنتيو إلى المعبود الأب ( أوزير ) الذي كان أبا لحورس في النصف الثاني من عصر الدولة القديمة الأمر الذي يعني أن ثنائية ( حورس – أوزير ) هي نتاج متقدم لثنائية ( حورس – خنتي إمنتيو ) .
يتبين لنا مما تقدم أن قوائم ملوك العصر العتيق هي نتاج لعقيدة عبادة الأسلاف و تثبيت شرعيتهم و دمجهم بالمعبودات الأولى التي سبقتهم أسطوريا في حكم البلاد الأمر الذي جعل كاتب بردية تورين و تاريخ مانيتون بوضع هؤلاء الملوك في أسرات في فترة تاريخية لاحقة – مع الوضع في الإعتبار أن المصري لم يطلق مصطلح أسرة على هذا التقسيم إلا عند مانيتون – و مع عدم تجاهل أن فكرة وضعهم في أسرة ملكية واحدة ترجع إرهاصاتها الأولى للعصر العتيق و هو الأمر الذي ناقشه و تناوله الدارس من خلال هذا البحث – راجع ماسبق تناوله في الختم الملكي الثاني المكتشف في مقبرة الملك قاعا في أم الجعاب – و من هنا يرى الدارس أن تقسيم الملوك لأسرات لم يكن نتاجا لمحاولة بدائية لكتابة التاريخ كما تصور عدد كبير من الباحثين ( و كان منهم الدارس نفسه فيما مضى ) ، بل هو نتاج لإنجاز متطور لمفهوم عبادة الأسلاف الذي بدأ منذ عصور ما قبل الأسرات على أقل تقدير و بلغ درجة مرتفعة خلال عصر الأسرة صفر و هي الفترة التي شهدت توحد البلاد سياسيا و على مراحل تدريجية مما أدى لإكتمال و تبلور مفهوم عبادة الأسلاف بشكل واضح في بداية العصر العتيق و أن تغير مقر العبادة الجنزية لهؤلاء الملوك مع بداية الأسرة الثانية ( حيث دفن أول ملوكها في سقارة و ليس أبيدوس كما حدث مع ملوك الأسرة الأولى ) ربما كان دافعا قويا لإنهاء الأسرة الأولى و وضع جميع ملوكها في خط منفصل عن الخط الملكي الجديد الذي إتجه للدفن في جبانة جديدة مما نتج عنه وجود شعائر عبادة ملكية في مكان جديد و هو الأمر الذي أدى لخلق أسرة ملكية جديدة أو هكذا يعتقد الدارس وفقا للأدلة السابقة .