بسم الله الرحمن الرحيم
( الكائنات البشرية الأولى فى عصور ما قبل التاريخ )
................................... إن من أهم الأمور التى واجهت الإنسان فى عصور ما قبل التاريخ هو السؤال المتعلق بأصله و مصيره لأن البشرية تواقة لأن تعرف كيف و متى و من أين أتت و إلى أين هى ذاهبة ؟ . و بوصف صاحب هذه الدراسة ممن تعمقوا فى دراسة الأجناس البشرية الأولى أنثروبولوجيا ، فسيتناول تلك القضية و ما استجد من آثار كشفت عن الكثير فى سلسلة من المقالات المستقبلية و مازال البحث العلمى يشق مجراه . و هنا نود أن نحدد أولا ماهية الإنسان ؟ فلا شك أن تعريف الإنسان قضية معقدة تتداخل فيها معايير فيزيولوجية و حضارية و فلسفية و إجتماعية . لكن الباحثين يتفقون على شروط أساسية تميز الإنسان عن بقية الكائنات ، أهمها من الناحية الفيزيولوجية ، القامة المنتصبة أي قدرة السير على قدمين بدلا من أربعة ، ثم حجم الدماغ الكبير الذي يتجاوز فى حده الأدنى الحد الأعلى لحجم الدماغ من القرود الشبيهة بالإنسان التى تسمى ( anthropoidae ) و من الشروط الحضارية للأنسنة ( homonisation ) القيام بالعمليات الذهنية المعقدة ، أى الذكاء ، الذى مكن الإنسان الأول من التحكم بمحيطه و إخضاعه لحاجاته . و قد تجسد هذا الذكاء بشكل تفكير هادف و منظم قاده إلى صنع الأدوات و الأسلحة الحجرية التى تعد الدليل الإنساني الأهم و من هنا نؤكد أن القدرة على صنع الأدوات هى التى ميزت الإنسان عن الكائنات الأخرى التى تستعمل أحيانا ، الأدوات الطبيعية كالحصى و الأحجار لكنها لا تصنعها أبدا لذلك فإن بداية المجتمع الإنسانى هى : ( لحظة صنع الأداة الأولى )
و إذا أردنا تتبع ظهور الشروط الإنسانية على مدى الزمن ، نلاحظ أن الصفات الفيزيولوجية قد تحققت فى وقت سبق بكثير نضج المميزات الحضارية حيث عثر على هياكل كائنات عديدة كانت قادرة على أن تسير على قدمين و كان لها حجم دماغ كبير منذ حوالى ستة ملايين سنة ، لكنها لم تتوصل إلى صنع الأدوات إلا منذ حوالى 2,5 مليون سنة . و بدءا من هذا التاريخ فقط ، يتحدث الباحثون عن الإنسان بالمعنى الكامل علما بأن هناك تأثيرا متبادلا بين كل الصفات الفيزيولوجية و الحضارية لأن القامة المنتصبة و حجم الدماغ الكبير ساعدا على صنع الأدوات ، كما أن هذه الأدوات قد أدت إلى زيادة فى مرونة الجسم و الأطراف و إلى زيادة فى مرونة الجسم و الأطراف و إلى كبر حجم الدماغ الذى تضاعف مرتين تقريبا عما كان عليه وقت إبتكار الأداة الأولى .
و كان للبيئة و للظروف الجغرافية و المناخية أثر هام فى تطور عملية الأنسنة و دلت البحوث على أن منطقة جنوب القارة الأفريقية و شرقها كانت هى المكان الذى ظهر فيه الإنسان الأول حيث كانت الظروف المناخية قد تغيرت منذ 2,5 مليون سنة فساد مناخ معتدل و صحى بعد أن جفت المستنقعات و تراجعت الغابات الكثيفة و سادت السافانا شبه الصحراوية مما هيأ الشروط الملائمة لنزول الرئيسيات من الشجر و ساعد تأقلمها التدريجى فى العيش على الأرض . و قد كانت لحظة ترك الشجرة من العوامل الهامة التى أعقبتها تغييرات فيزيولوجية كبيرة فى بنية تلك الكائنات لأن الإنتقال بين الشجرة و الأرض أجبرها على إكتساب أوضاع جديدة تسهل حركتها كالوثب و الركض و التأرجح و الصعود و الهبوط .
هذه الأوضاع أدت إلى تغيير فى بنية العمود الفقري بشكل أصبح فيه الرأس و معه الجسم يرتكز على العمود مباشرة ، مما ساعد على إكتساب القامة المنتصبة التى صارت إحدى الشروط الإنسانية الرئيسية . و أدى إنتصاب القامة و السير على القدمين إلى تحرير اليدين من الإرتكاز عليهما أثناء المشي فأصبحت الأصابع ذات مرونة ، فقد إشتركت اليد فى وظائف جديدة أكثر إرتباطا بمراكز التفكير فى الدماغ ، فكانت الأسلحة و الأدوات الدليل الأكبر التنسيق بين عمل اليد و المخ .
و لابد أن نشير إلى حقيقة هامة : و هى أن بدايات ظهور الكائنات المنتصبة القامة قد حدث منذ حوالى 6 ملايين سنة لكنها لم تستطع صنع الأدوات الحجرية مما جعل بعض الباحثين يطلقون عليها ( أشباه الإنسان ) و إعتبرها البعض الآخر كائنات بشرية أولى بالمعنى الفيزيولوجى فقط و ليس بالمعنى الحضاري و هذه كلها كائنات ظهرت بين حوالى ( 6 - 3 ) ملايين سنة وجدت فى قارة أفريقيا : أثيوبيا و تنزانيا و كينيا و يطلق عليها بعض الباحثين إسم الأوسترالوبيتك العفارى ( australopithecus afarnsis ) و إليها ينسب الكشف الشهير المسمى لوسي ( lucy ) التى وجدت فى موقع ( hadar ) فى إقليم عفار فى جيبوتى و يؤرخ بحوالى 3,5 مليون سنة . و هى هيكل عظمى حفظت معظم أجزائه لإمرأة طولها حوالى .... 1,30 م ، وزنها حوالى 40 كجم و حجم دماغها حوالى 450 سم مكعب و كانت تسير منتصبة القامة . كما وجدت بقايا طبقات أقدام كائنات سارت منتصبة القامة فى موقع( letoly ) فى تنزانيا مما يدل على أن إنتصاب القامة تحقق قد تحقق قبل إكتمال القدرة على صنع الأدوات الحجرية .
... إنتهينا إلى نتيجة هامة و هى أن جنس الأوسترالوبيثيكوس العفاري ( australopithcus afarnsis ) - أقدم الكائنات البشرية الفيزيولوجية - عاشت ردحا طويلا من الزمن دون أن يكون لها إنتاج حضاري معروف برغم إنتصاب قامتها إلا أنه و منذ 3 ملايين سنة دخل الأوسترالوبيتك العفاري مرحلة متطورة كبرى يميز الباحثون فيها نوعين : الأول و يسمونه الأوسترالوبيتك الأفريقي ( australopithecus africanus ) . و الثانى هو الأوسترالوبيتك الغليظ ( australopithcus robustus ) و قد عاش كل من هذين النوعين فى تنزانيا و أثيوبيا و جنوب أفريقيا فى مناطق شبه صحراوية كانت تعيش فيها نباتات و حيوانات السافانا ، كالقرود و حمار الوحش و الزرافة التى لا تختلف عن تلك الموجودة هناك الآن و ينبغى هنا أن نؤكد على هذه النتيجة الهامة و هى : تشير البحوث إلى أن النوع المسمى بالأوسترالوبيتك الأفريقي هو الذى قام بتصنيع الأدوات الحجرية الأولى ، و تطور نحو الإنسان بالمعنى الحضارى ، فلقد عثر فى موقع أولدفاى فى تنزانيا على كائن متطور عن الأوسترالوبيتك الأفريقى كانت ترافق عظامه أدوات حجرية ، فى طبقة تؤرخ على حوالى 2,5 مليون سنة خلت ، فأطلق على هذا الكائن إسم الإنسان الصانع ( homo - habilis ) و تم إعتباره النوع الأول و الأقدم من البشر
و كان هذا النوع منتصب القامة لكنه قصير طوله حوالى 150 سم ، و له حجم دماغ صغير يتراوح ما بين 650 - 750 سم مكعب و جمجمته قليلة التدور و جبهته مائلة إلى الخلف و وجهه يبرز إلى الأمام ، و ذقنه غير واضحة و فكاه و أسنانه غليظة و عظام حواجبه بارزة و هو يحمل صفات أكثر تطورا من الأوسترالوبيتك ، جده الأول ، لكنه أقل تطورا من الإنسان الحالى .
إن تشكيل الأدوات الحجرية من قبل ال ( homo - habilis ) هى الدليل على أن ذلك الإنسان كان لديه تفكيرا منظما جعله يستغل البيئة التى عاش فيها مما ميزه عن بقية الرئيسيات المعاصرة له و يمكن القول أن ما نعلمه عن ذلك الإنسان هو بالفعل قليل ، حيث يظن أنه أقام أكواخا بسيطة و ربما إستفاد من النار الطبيعية كما لا نعلم شيئا عن حياته الروحية و الإجتماعية و لا عن لغته ، و لم نعثر على مواقع له خارج أفريقيا مما يدل على أنه لم يغادر حدود هذه القارة أبدا حيث عاش فيها أكثر من مليون سنة .
و منذ حوالى 1,5 مليون و نصف المليون سنة ظهر نوع جديد من البشر أكثر تطورا من الإنسان الصانع يسميه الباحثون الإنسان منتصب القامة ( homo - erectus ) و عثر على عظامه لأول مرة فى حوض نهر السولو فى جزيرة جاوا فى أندونيسيا و قد ظهر إنسان منتصب القامة أيضا فى موقع العبيدية فى حوض نهر الأردن و أرخ حوالي 700 ألف سنة قبل الميلاد . و نشير هنا إلى أن الباحثين يقسمون هذا النوع إلى صنفين : الأول آسيوي و يسمونه الهومو إركتوس و الثاني الأفريقي و يطلق عليه هومو إرجاستر ( homo - ergaster ) و يحمل الهومو إركتوس صفات فيزيولوجية و حضارية أكثر تطورا من سلفه الإنسان الصانع ، فهو كائن منتصب القامة يتراوح طوله مابين 150 - 160 سم و حجم دماغه بين 800 - 1000 سم مكعب و جمجمته أكثر تدورا و جبهته أقل ميلانا إلى الخلف و عظام حواجبه بارزة و متصلة و ذقنه مازالت غير واضحة . و قد كان هذا النوع أكثر قدرة من السابق فى السيطرة على بيئته الجغرافية لأنه دخل مناطق باردة جديدة فى أوروبا و آسيا و إستفاد بشكل أكبر من الملاجىء و المغائر الطبيعية ، كما إهتدى لأول مرة إلى بناء الأكواخ البسيطة التى دلت عليها الإكتشافات فى تنزانيا و سوريا و فرنسا و بفضل هذه الأكواخ إستطاع الإقامة فى مختلف المناطق بغض النظر عن طبيعة الطقس ، بعد أن إرتدى أوراق الشجر و النباتات و جلود الحيوانات ، كما أنه عرف مبكرا إستخدام االنار التى حققت له فوائد كبيرة من التدفئة و الإنارة و الطبخ و فى الدفاع عن النفس و لا شك أن إختراع النار فى تلك الفترة كان يمثل تحول حضاري هام لدى إنسان تلك الفترة (وللمقالة بقية ان شاء الله )
إنتهينا فى المقال السابق عند حقيقة لا مراء فيها و هى : ظهور إنسان منتصب القامة منذ حوالى مليون و نصف المليون سنة قبل الميلاد و قدرة سيطرته على بيئته الجغرافية بمهارة تفوق سلفه الإنسان الصانع . و عندما إستطاع إنسان منتصب القامة تطوير أدواته الحجرية كان ذلك يعنى تطوير قدراته على الصيد فقل إعتماده على النباتات منتقلا إلى ما يسمى ب ( الوجبة اللحمية ) ، بينما كانت ( الوجبة النباتية ) هى المصدر الغذائى الأهم فى غذاء سلفه و لا شك أن أسلحته و أدواته الحجرية كانت أكثر فاعلية و على رأسها الفأس اليدوية ( hand axe ) ، فكانت واسعة الإنتشار حيث إستخدمها فى قتل الحيوانات و حفر التربة و قطع الأشجار و الدفاع عن النفس و من أهم إنجازاته الحضارية أنه أقام حياة إجتماعية منظمة و قام بتشكيل ( الأسرة الأولى ) التى يقف على رأسها أب تتبعه زوجة أو عدة زوجات و أولاد و يعتقد علماء الأنثروبولوجى أن ذلك الإنسان عرف تقسيم العمل طبقا للجنس و السن فاشتغل الرجال فى المجالات الشاقة كالصيد بينما عملت النساء فى إلتقاط النبات و جمع الثمار و تدبير أمور البيت و الصغار
و يقتنع الباحثون بأنه كان لدى إنسان منتصب القامة لغة واضحة المفردات و المعانى شكلت الرباط النفسي القوي بين مختلف أفراده و جماعاته التى تناقلت تجاربها و معارفها بواسطة هذه اللغة ، على مر الأجيال . و تخطت تلك الكائنات مرحلة العزلة الفردية و تطورت ضمن المجموعة الإنسانية الواحدة التى تعاونت فى السراء و الضراء فكانت تعيش متكافلة متضامنة ، تدافع عن نفسها كجماعة كما تجوع أو تشبع معا ، و يلاحظ أن ذلك الإنسان إستهلك من موارد الطبيعة الحرة ما يكفى لسد حاجاته فقط مما أدى إلى تكوين مجتمع لم يشعر برغبة فى تجميع خيرات الطبيعة و ممارسة ( التملك الخاص ) بل كانت ( خيراته مشاعية ) فبقيت بعيدة عن متاهات تجميع الثروة و صراعات الغنى و الفقير .
أما عن الجنس البشري الذى تطور من الإنسان منتصب القامة فهو إنسان نياندرتال الذى زاد حجم دماغه و أصبح يتراوح مابين 1000 - 1200 سم مكعب ، و أصبح لدينا بيانات أوسع عن حياة هذا الإنسان الإجتماعية و الإقتصادية . فقد كان النياندرتاليون أكثر عددا من سابقيهم و انتشروا على مناطق جديدة و باردة فى نصف الكرة الشمالى التى لم تسكن من قبل فوصلوا حتى سيبريا بعد أن أتقنوا صناعة الجلود الدافئة و ارتدائها ، و استغلوا على أكمل وجه المغائر و الملاجىء الطبيعية التى قاموا بتكييفها و إعادة تنظيمها و تقسيمها و إقامة المصاطب و الجدران فيها أو توسيع مداخلها و تضييقها حسب الحاجة و طوروا الإستفادة من النار و عرفوا كيف و متى يوقدونها و بطرائق مختلفة كالقدح و الحك متحررين من الإعتماد على النار الطبيعية و كان النياندرتال صيادا ماهرا قتل حيوانات قوية و خطيرة كالماموث و وحيد القرن مستفيدا من لحمها و جلدها و عظمها و ينبغى لنا هنا أن نذكر أهم الإنجازات الحضارية لهذا الإنسان و هو أنه ( لم يترك موتاه تنهشهم الوحوش و الطيور الجارحة ، بل إهتم بهم و دفنهم بعناية ) بل و وضع مجموعة من التقدمات و العطايا فى قبور الموتى مما يدل على أن إنسان النياندرتال كان إنسانا عميق المشاعر و قد تأثر بالموت و اتخذ منه موقفا محددا و اعتقد أن هذا الموت لا ينهى حياة إخوته و أفراد أسرته فزودهم بكل ما يحتاجونه
و يشير الدارس هنا فى عجالة إلى جدل عنيف دار بين الباحثين حول مصير النياندرتال ، حيث يعتقد عدد من الباحثين أنه تطور نحو الإنسان العاقل ( homosapiens ) و يؤمن آخرون بإنقراضه دون خلف و يجعلونه فرعا جانبيا على هامش العملية التطورية . إلا أن لإكتشافات الأنثروبولوجية الأخيرة لعصور ما قبل التاريخ أثبتت نتيجة هامة و هى : لا علاقة تطورية بين الإنسان العاقل و إنسان النياندرتال بل إن الإثنين قد تطورا من أصل مشترك و هو نوع من الhomoerectus ، إنسان منتصب القامة ، الإنسان الأول و طبقا لهذه النتيجة فالإنسان العاقل ظهر أولا فى شرق أفريقيا ثم هاجر الى الشرق الأوسط فى مرحلة مبكرة حوالى 100,000 قبل الميلاد و ذلك قبل أن ينتقل إلى أوروبا فى وقت متأخر جدا منذ حوالى 35,000 قبل الميلاد بينما ظهر إنسان نياندرتال فى أوروبا أولا و منها أتى إلى الشرق الأوسط فى مرحلة لاحقة و هكذا حدث تعايش و تعاصر بين النوعين فى منطقة الشرق الأوسط الأمر الذى أدى بدفع عجلة الحضارة البشرية فى منطقة الشرق الأوسط فتفوقت على مناطق أخرى من العالم القديم مثل أوروبا و جنوب شرق آسيا و وسط و جنوب أفريقيا و لا شك أن ظهور الإنسان العاقل دفع الحضارة الى الأمام بشكل لم يسبق له مثيل إذ بلغ بالمستوى الإجتماعى و الإقتصادى درجة عالية من التقدم و التنوع و انتشر هذا الإنسان فى أرجاء المعمورة كلها و وصل الى مناطق لم يدخلها أى نوع قبله و كان أول من سكن القارة الأمريكية و الأسترالية و يمكن القول أن الإنسان الحالى منحدر فعليا من سلفه ( الإنسان العاقل )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق