الثلاثاء، 7 يناير 2014

وحدة مصر السياسية بين التاريخ و الذاكرة


بسم الله الرحمن الرحيم 

وحدة مصر السياسية بين التاريخ و الذاكرة



يتناول هذا المقال مفهوم تكون مملكة مصر من منظور أثاري أنثروبولوجي  حضاري أو بمعنىأدق كيف قام المصريون القدماء بتكوين و تشكيل هذا الحدث عندما عاصروه و كيف نظرواإليه بعد حدوثه أي كيف قاموا بتكوين ذكرى تستند على الماضي لهذا الحدث . و قبل أننخوض في غمار هذه الدراسة العلمية ، يود الدارس أن يهدي هذا المقال للزميلة والأخت العزيزة الأستاذة " نورا إبراهيم ناصيف " الباحثة في الآثارالمصرية و الشغوفة بمعرفة كل جديد عنها . لاريب أن وحدة مصر السياسية كانت هيالحدث الأبرز حضاريا و أنثروبولوجيا بالنسبة لجميع الأجيال التي عاصرت ذلك الحدثالتاريخي كما أنه ظل في بؤرة الضوء بالنسبة للأجيال اللاحقة التي قامت بتشكيل ذكرىخاصة بهذه الواقعة التاريخية ( تناول الدارس هذا الموضوع في أكثر من محاضرة فينقابة المرشدين فضلا عن كتابته لمقالات أخرى سابقة مرتبطة بتلك المسألة ) . و هناينبغي لنا أن نضع في الإعتبار أنه ليس بالضرورة أن تتطابق هذه الذكرى التي تشكلتفي زمن لاحق مع الواقع التاريخي نفسه ، فالواقعة هنا تم تسجيلها وفقا لرؤية ملوكالأسرة صفر ( لم تكن وحدة مصر السياسية كحدث تاريخي من عمل ملك واحد أو في عصرواحد ) و مدى نجاحهم في تحقيق ذلك الأمر . أما الذكرى المستقبلية الناشئة لدىالأجيال اللاحقة تناولت تلك الواقعة بشكل مختلف ، فالذكرى لا تتفق دائما معالتاريخ .
مما لاريب فيه أن ظهور التصوير الفني خلالعصر نقادة الأولى ( المرحلة الأولى لعصور ما قبل الأسرات و تبدأ من 3900 حتى 3600ق.م ) كان هو العامل الأبرز حضورا في رغبة الإنسان المصري القديم في تثبيت أهمالأحداث التي باشرها بنفسه خلال حياته ، و هو ما ظهر لدينا بشكل واضح على فخار تلكالفترة ، فجميع المناظر التي صورت على ذلك الفخار هي وسيلة لتسجيل " الحدثالأبرز لصاحبه " بل و محاولة تثبيت هذا الحدث كمادة " للذكرى المستقبلية" .
و من جانب آخر يمكن القول أن هذه الحاجةلتثبيت و تسجيل أحداث الزمن الحاضر جاءت بشكل صريح و مباشر على أحد أشهر آثار تلكالفترة و هي مقبرة الزعيم في نخن و التي تنتمي لنهايات عصر نقادة الثانية - 3400 –3300 ق.م - حيث ظهر و لأول مرة على جدران مقبرة مصرية مشهد " ضرب الأعداءبمقمعة الزعيم " و الذي تحول فيما بعد إلى مشهد تقليدي عند ملوك مصر و كانالغرض من تصويره هو : " الإعلان السياسي عن مفهوم الحاكم الذي يبطش بأعداءالبلاد لأجل تثبيت شرعيته " و هو المشهد الذي تصدر الوجه الرئيسي لصلايةالملك نعرمر في نهاية الأسرة صفر الأمر الذي يرجح أنه مشهد ينتمي للموروثاتالثقافية الملكية و التي كانت تعلن دائما عن أهم سياساتها وهي : إظهار مفهوم الملكحامي حمى البلد و قاهر الأعداء بغرض تثبيت شرعيته . فنحن هنا أمام وسيلة لإثباتالشرعية ، و لتحقيق ذلك كان لابد من إستخدام العنف بل و تصويره كمشهد في الزمنالحاضر و كمادة للذكرى المستقبلية .
 تميزتصلاية الملك نعرمر بظهور " المناظر الكبرى المعبرة عن أحداث تلك الفترة فضلاعن نشأة كلمات تصويرية ذات قيم صوتية تم تمثيلها بحجم صغير " . فظهور بعضالكلمات التي ترافق مثل هذه الصور الفنية الكبرى هو لاشك أحد أبرز إنجازات تلكالفترة ، حيث سعة الملك هنا لإيجاد طريقة كتابية محددة و واضحة لتحديد أسماء المدنو أهم الموظفين و المعبودات فضلا عن إسمه . و هنا يجوز لنا أن نقول أن ما سبق هوتعبير عن " يقظة التاريخ " ، حيث أصبح للتاريخ وعيا ، بالرغم من أن هذاالوعي لا ينطبق على الماضي و إنما على الحاضر ( و هو زمن تسجيل الحدث عند وقوعهمباشرة ) . فالغرض الرئيسي من هذا التصوير هو : تثبيت الحدث للأبد في ذكرىالمصريين .
كشفت آثار الأسرة صفر عن ملمح ديني و سياسييرتبط بالملكية المصرية و هو إرتباط الملك و توحده بالمعبود " حورس " ربنخن ( مع الوضع في الإعتبار أن هناك حكاما آخرين لم ينتسبوا في أسمائهم للمعبودحور رب نخن خلال عصر الأسرة صفر ) مما جعل هذا الحدث يستمر في ذكرى الملكية اللاحقةو حتى العصرين البطلمي و الروماني . و هو ذات المعبود الذي ظهر غالبا على صلايةالملك نعرمر ( هذا إذا تجاوزنا عن الرأي القائل بعدم معرفة هوية الصقر المصور علىالصلاية نظرا لعدم ذكر أي إسم مرافق له ) ، فهناك من يرى بأن الأحداث التي صورتعلى صلاية الملك نعرمر هي أحداث وقعت بالفعل و ليست مجرد مشاهد دينية رمزية أودعائية كما يعتقد فريق آخر من الباحثين . و لذا ينبغي لنا أن نشير إلى بعض الملامحالتالية :
1 – الرغبة في تدوين أحداث ذلك العصر نظرالمدى أهمية الواقعة نفسها و هي واقعة إتحاد المملكة
2 – و لكي تكون المادة المعروضة قابلة للرؤيةو العرض و الفهم و الإستيعاب لابد من إيجاد طريقة كتابية أخرى تتمثل في تصويرعلامات صغرى تعبر عن قيم صوتية و تدل على معنى لا علاقة له بما تمثله في الطبيعة ،و بمعنى آخر : وجود حاجة ماسة للكتابة التي تمكن الإنسان المصري القديم من خلالهامن تسمية الأماكن و الأشخاص و المعبودات بأسمائهم .
3 – ظهور مناظر جديدة و فريدة من نوعها علىمعظم مشاهد صلاية الملك نعرمر و هي تختلف تماما عن المناظر التي سبقتها من آثارالملوك الذين سبقوه ، فالفن هنا يعكس مشاهد جديدة تعبر عن حوادث فريدة و كان الهدفمن ذلك : ليس مجرد حفظها من النسيان بل وضعها في حيز العرض و الرؤية و لذلك فمشاهدالصلاية تعبر عن : أثر يكشف عن " تاريخ " و يتحول إلى مادة " للعرض" في الزمن الحاضر بعد أن يعاد صياغته في شكل تمثيلي فني يتناسب مع "الأهداف الأيدولوجية للملكية المصرية " و تصبح ايضا رؤية نموذجية مستقبليةقابلة للقراءة دوما .  
هناك تساؤل هام : " هل صلاية الملكنعرمر كانت قابلة للرؤية من جانب الجماهير المصرية ؟ و لاسيما و أنها كانت موضوعةفي المعبد ؟ " ...
لم يكن المستقبل ( بضم الميم و كسر الباء )الرئيسي لهذه الأحداث هو الجانب البشري ( مع عدم إغفال أهمية ذلك الجانب و تعريفهبطريقة أو بأخرى بطبيعة عمل و أهداف الملكية ) ، بل كان المستقبل لها هو جانبالآلهة ذاتها نظرا لأن هذه الوقائع سجلت على أثر تم إكتشافه في معبد فالهدفالرئيسي هنا يتجه نحو إخبار و تعريف الآلهة بما حدث و من هنا تتثبت هذه الإنجازاتفي الزمن الحاضر كرسالة للمستقبل و ذلك عندما يتحول هذا الحاضر " زمن وقوعالحدث " إلى ماضي و ذلك في إطار دائرة أبدية لا تزول و لا تفنى و بناءا عليهنقول :
" أن كتابة التاريخ تتم أولا في محيط عالمالمعبودات لإكساب صاحبها في الزمن الحاضر شرعية سياسية و دينية أبدية بل و يتحولإلى نموذج مستقبلي يحتذى به ثم إخبار الجانب البشري أيضا في الأزمان اللاحقة بماوقع في الزمن الماضي بشكل أو بآخر " . إن المعنى السياسي هنا و إرتباطه بعالمالآلهة هو الذي أنتج رموزا كتابية جديدة على صلاية الملك نعرمر و لهذا السبب يرىفريق من الباحثين أن معظم مناظر الصلاية كانت مثالا واضحا عن " تدوين التاريخالقديم " بكل ما تحمله الكلمة من معنى و طبقا للمنظور الثقافي المصري القديم.
و مهما كان تفسيرنا لمناظر الصلاية ( سيقومكاتب المقال بعمل دراسة أخرى في المستقبل عن صلاية نعرمر بإذن الله مع التنويهبأنه تناولها في مقال سابق ) فيمكن لنا أن نستشف الملامح التالية :
1 – ظهرت أربعة مناظر من الصلاية من أصل خمسمشاهد رئيسية مفهوم جبروت و بطش الملكية عند نشأة الوحدة المصرية ، فالعنف و القتلو الخضوع للملك هو الموضوع السائد في هذه المشاهد .
2 – أن توسع الملكية و محاولة ضم الجميع تحتراية و زعامة واحدة لم يكن توسعا سلميا بل هو مسألة تتصل بالعنف و إجبار الأطرافالمناوئة على الخضوع لشخص الملك و هو ما يشكل حدث فريد في الزمان و المكان .
3 – يظهر من تمثيل الأعداء على صلاية الملكنعرمر أن الملك هنا لا يقاتل ضد قبائل و إنما ضد عدو مستقر يعيش في قلاع و مدنمحصنة و هو ما يكسب مشاهد الصلاية وقائع تاريخية تعبر عن حدث في الزمن الحاضرالمعاصر لمشاهد الصلاية .
4 – يتوافق شكل المدينة المحصنة المصورة علىصلاية نعرمر مع ما كشفت عنه الآثار خلال عصر نقادة الثالثة أو الأسرة صفر حيث كانتالمدن المصرية في تلك الفترة عبارة عن قلاع عسكرية محصنة ، فطريقة ضرب العدو هناتتمثل في تحطيم قلعة المدينة و ذلك حتى يتم إخضاع من فيها من السكان و قد أثببتالتنقيبات و الحفائر عن وجود بقايا أسوار كبرى من الطوب اللبن تتكون من حصون وبوابات تحيط ببعض المدن المصرية خلال عصر نقادة الثالثة و هو ما يتوافق و ينسجم معمنظر حصن المدينة التي يقتحمها الملك في هيئة الثور على الصلاية .
5 – على هذا الضوء ، يمكن القول بوجود ممالكصغرى ذات سيادة إقليمية مستقلة تم إخضاعها بالقوة الأمر الذي أدى في النهاية لظهوردولة ذات سيادة مركزية و إقليمية كبرى هي الأولى من نوعها في تاريخ الحضاراتالبشرية و ذلك من خلال محاربة دول المدن المستقلة .
إن جميع آثار الأسرة صفر بما فيها صلايةالملك نعرمر هي : " رسالة فنية سياسية تعلن فيها عن ظهور مبدأ القوة الملكيةكنوع من إكتساب الشرعية فضلا عن حرص ملوكها على الظهور أمام أهم معبودات ذلك الزمنلإظهارهم في شكل المؤيدين لأعمالهم السياسية " .
و لهذا فلاغرابة من ظهور أسماء تعكس مفهومالقوة و البطش مثل " العقرب " و " نعرمر " ( حيث كانت الإلهةنعر ربة مقاتلة في آثار الأسرة صفر و العصر العتيق ) و " حور عحا " (حورس المحارب ) و غيرها من أسماء ملوك الأسرة الأولى و الثانية و هو ما يكشف عنالثقافة الملكية المصرية منذ نشأتها الأولى المتمثلة في هيئة الملك الحاكم كشخصيةحربية تقضي على الأعداء في الخارج و الداخل ، فهم الممثلين للفوضى و لذا فهي تحميالبلاد من خطرهم . فنحن هنا أمام " واقع تاريخي " في " الحاضر" يتم إستغلاله " كرسالة أيدولوجية " تنتقل إلى " المستقبل" حتى يتم الحفاظ على الملكية كضامن أوحد لإستقرار النظام في البلاد .
إن أقدم مادة معروفة لذكرى الوحدة المصرية هيطقسة " سما تاوي " بمعنى توحيد الأرضين ، و هي الطقسة التي وردت على حجربالرمو حيث كان الملك حور عحا هو أول من يقيم هذه الطقسة وفقا لما تم ذكره على ذلكالأثر . فهذه الشعيرة تهدف لإحياء ذكرى توحيد مصر لأول مرة كحدث وقع في الزمنالماضي على يد الملك حور عحا ( أول ملك في عصر الأسرة الأولى وفقا لحجر بالرمو ) فيالزمن الحاضر و في زمن المستقبل إلا أن ما ورد هنا عن هذه الطقسة لا يذكر بالتحديدمتى وقع هذا الحدث . و من ناحية أخرى يظهر لنا حجر بالرمو ( الذي تم كتابته في عصرالأسرة الخامسة ) أن هناك مجموعة من الملوك الذين يرتدون التاج الأحمر و التاجالمزدوج قبل عصر الأسرة الأولى ! و هنا يتضح لنا ما يلي 1 – كشفت الآثار عن مجموعةمن الملوك و الزعماء الذين إرتدوا التاج الأبيض و التاج الأحمر خلال عصر الأسرةصفر و هو ما يتوافق مع ما ظهر في حجر بالرمو أي أن الماضي هنا يتفق مع وثيقةبالرمو التي تمثل الزمن الحاضر ( أي زمن كتابتها في عصر الأسرة الخامسة ) .
2 – كان كاتب حجر بالرمو متسقا مع نفسه عندمالم يذكر أي عمل فعلي لملوك الفترة التي سبقت عصر الأسرة الأولى فذاكرته عن هؤلاءالأشخاص لم تسعفه لكتابة أي حوليات عنهم مثلما كتب عن حوليات ملوك العصر التاريخيمنذ عصر الأسرة الأول و حتى النصف الأول من عصر الأسرة الخامسة . ( و هناك منالباحثين من يرى أن السبب في ذلك عدم وجود كتابة تصويرية صوتية متكاملة الأركان أيكتابة ناضجة خلال فترة ما قبل الأسرات و لذا فلم يسجل كاتب بالرمو عنهم شيئا )
3 – يتضح لنا إذن أن الذاكرة المستقبلية هناو من خلال هذا السياق قد لا تعرف من هو أو من هم الذين قاموا بتوحيد مصر لأول مرة؟ فهناك ملوك يرتدون التاج المزدوج في حجر بالرمو لا نعرف عنهم شيئا فضلا عن ظهورطقسة سما تاوي في عصر حور عحا لأول مرة و التي لا تكشف عن إسم الملك الذي قامفعليا بتوحيد البلاد . فهنا نجد حالة إنقطاع حضاري واضح بين ما تم في "الماضي " و ما ظهر في " الحاضر " و " الذاكرة المستقبلية" ، فليس من الضروري أن كل ما وقع في الماضي يظهر في الحاضر و المستقبل .
4 – نلاحظ هنا أن حجر بالرمو و هو أقدم وثيقةتاريخية معروفة لنا من عصر الدولة القديمة ( هناك وثائق تاريخية أقدم من حجربالرمو و تسجل أعمال الملوك على البطاقات العاجية و ترجع للعصر العتيق ) لا يذكرإسم " مينا " على الإطلاق كمؤسس أول للوحدة المصرية و بمعنى آخر أنالمصريين خلال عصر الدولة القديمة كانوا يجهلون هذا الإسم فهو لم يظهر إلا فيالذكرى الثقافية المستقبلية لعصر الدولة الحديثة . كما لا فوتنا من ناحية أخرى أنإسم الملك " مينا " لا يظهر على الإطلاق لا على آثار الأسرة صفر و لاعلى آثار العصر العتيق مما يعني أن وثيقة بالرمو تتفق مع آثار تلك الفترة الماضيةفلا تذكر إسم ذلك الملك .
5 – لم يكن إسم " مينا " أو "مني " سوى نتاج لذكرى ثقافية أنثروبولوجية متأخرة و هنا نقول أن الجذرالأساسي لهذا الإسم هو : " من – بكسر الميم " و الذي يعني : يظل ثابتاأو يظل خالدا أو يؤسس . و نلاحظ من جانب آخر أن هذا الجذر يتفق مع جذر إسم المعبود" مين " رب الخصوبة و لذا فمن المرجح أن " منو " – و هو إسمالمعبود مين و " مني " – و هو الإسم الأسطوري لأول ملك مصري يكشف عنعلاقة ما بينهما و هي : أن الملك الأول الذي قام بتوحيد البلاد هو نفسه الخالقالأول – أنظر رسالة المرحوم دكتور محمد حسون عن الإله مين – فسلطة الملك هنا قديمةقدم العالم ، و التي تولاها الخالق نفسه منذ البداية حيث إرتبط المعبود مين بمفهومالثور الذي أنجب نفسه بنفسه من خلال تلقيحه لأمه البقرة البرية العظيمة ( قارن بينهذه الفكرة و مشهد الملك نعرمر في صلايته و هو يمسك المقمعة التي تمتد أفقيا" بما يشبه شكل عضو الخصوبة " و مشابهة هذا الشكل بشكل المعبود مين ربالخصوبة فضلا عن تصوير البقرات بات الأربعة على نقبة نعرمر حيث يقوم بتخصيبها فيأركان العالم الأربعة – و هو ما ظهر على بعض فقرات متون الأهرام أن الملك هو الثورمين الذي يخصب أمه البقرة البرية العظيمة من خلال نقبته الملكية -  و هو ما يؤكد أن الملك هنا متمقمص هيئة الثورالمخصب لأمه أو بمعنى أدق هيئة الإله مين رب الخصوبة و هو ما يرجح توحد نعرمر معشخصية " مني " الأسطورية في الذاكرة الثقافية التي ظهرت خلال عصر الدولةالحديثة بل و هيمنة ذلك الإسم " مني " على الذاكرة المصرية في مقابلالإختفاء التام لإسم الملك نعرمر ) . فالتركيز هنا يتم على الشخصية المؤسسةللملكية المصرية أكثر من المؤسس نفسه فضلا عن أن الذاكرة أحيانا قد لا تعي الوقائعالتاريخية التي حدث في الماضي الأول و لذا تظهر الحاجة لخلق ماضي ثاني قد يتفق أولا يتفق مع الماضي الأول .
يتبين لنا مما تقدم أن الذاكرة الثقافيةالأنثروبولوجية المرتبطة بمفهوم الوحدة المصرية ( و يمكن تطبيق هذه الفكرة على أيحدث تاريخي ) قد تعكس شيء من المصداقية التاريخية و لكنها لا تعكس التاريخ أوالماضي الأول بأكمله كما وقع ، بل هي تخلق ماضي ثاني يحل محل الماضي الأول و هذاالماضي الثاني يكشف عن رسالة هامة أو يعكس نقاط ثابته لا يمكن زحزحتها و هي : نشأةالملكية و قدمها قدم الخالق الأول نفسه الذي ما إن خلق الكون ، قام بخلق الملكيةذاتها و لاريب أن ظهور مثل هذه الفكرة تعكس إلى حد كبير وجود إنقطاع حضاري نسبيبين الماضي الأول و زمن الحاضر و زمن المستقبل مما أدى لتكوين ذكرى ثقافية مرغوبفيها تحكي عن التاريخ لا كما وقع بحذافيره و لكن تعكس رسالة تؤدي إلى الهدفالمطلوب . و لاريب أنه كلما إبتعد الحدث عن زمن وقوعه كلما زادت نسبة التغيير فيهفي الأزمان اللاحقة و كلما إختلفت الذاكرة الحاملة له و من هنا فإن التاريخ يختلف إلى حد كبير عن الذاكرة .  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق