بسم الله الرحمن الرحيم
القبر و طريق الخلاص في الحضارة المصرية القديمة
شكلت القبور و ما صاحبها من طقوس جنائزية فيالحضارة المصرية القديمة تراثا ضخما و عظيما ليس له نظير في حضارات العالم القديم. و قد لفتت هذه الظاهرة أنظار الرحالة الأجانب من بلاد الإغريق و الرومان فعلىسبيل المثال كتب ( هيكاتايوس فون أبديرا ) الذي عاش في مدينة الإسكندرية لمدة 15عاما و تمكن من زيارة جميع المدن المصرية ما يلي : " لا يهتم المصريون بالوقت الذي يعيشونفيه ، لأنهم يضعون أكبر إهتمامهم على الوقت الذي يأتي بعد موتهم . فهم يحتفظونبالذكريات عن فضائلهم في أذهانهم حتى يتذكرها أحفادهم من بعدهم . أما عن قبورهمفيسمونها البيوت الأبدية و التي يقضون فيها الوقت الأبدي في العالم الآخر لذلم فهملا يفكرون كثيرا بتأثيث بيوتهم الدنيوية ، بينما لا يضعون أي حدود على مصاريفقبورهم " . هنا نستشف : أنه بالرغم من أن هذا النص يعكس فكر المصري القديم فيالعصور المتأخرة ، إلا أنه يكشف عن معتقدات دينية راسخة في وجدان المصريين وموروثة منذ أزمان بعيدة . و لعل أصدق دليل على ذلك ، هو شهادة مصرية قديمة ترجعلعصر الدولة الحديثة و هو نص من المقبرة رقم 131 في طيبة جاء فيها ما يلي :
" لقد شيدت لنفسي قبرا فاضلا في مدينتيالأبدية و قمت بالتفتيش بكل عناية عن مكان مناسب لقبري الصخري في صحراء الأبدية .و ليدوم إسمي فوقه و في أفواه الأحياء لكي تبقى ذكراي عند الناس جيدة بعد السنينالطويلة التي سوف تأتي . فالحياة الدنيا ليست سوى النزر القليل . إنه إله مجيد ذلكالذي يعمل لصالح المستقبل و الذي يفتش بقلبه ليبحث عن السلام فيدفن جسده و يحياإسمه و هو الذي يفكر في الأبدية " .
يتبين لنا من هذا النص الأخير عدد منالملاحظات الهامة و هي :
1 – أن الإنسان في مصر هو من يبحث بنفسه عنمكان مناسب لعمل مقبرته وفقا لإمكاناته المادية و طبيعة منصبه في الدولة .
2 – أن المقبرة هي الوسيلة التي تجعل للإنسانذكرى أبدية في عالم الأحياء ، فأولى طرق الخلاص : أن يظل إسم الإنسان في أفواهالبشر ، فالمقبرة هي مكان إستدامة ذكر الإنسان .
3 – يتحدث كاتب النص عن إمكانية تحول الإنسانإلى " إله مجيد " بمجرد دفنه في المقبرة ، و هنا ندرك أن العالم الآخرفي مصر هو مكان تواجد الآلهة و أن الإنسان و بفضل الطقوس الجنائزية التي تقام لهعند دفنه يكتسب طبيعة إلهية مجيدة تجعله يحيا للأبد .
4 – يعود سبب النفقات الضخمة على القبور فيمصر إلى مفهوم هام : أن الحياة الدنيا هي قصيرة للغاية إذا ما قورنت مع الحياةالأبدية التي يقضيها الناس في مملكة الموتى .
و لعل هذا النص الأخير يتوافق مع ما جاء فيتعاليم " خيتي الثالث لإبنه مري كا رع " حيث قال له : " قم بتجهيزبيتك في الغرب بكل ما هو جيد و اجعل مكانك الممتاز في مقبرة الموتى " .فالإنسان في عالم مصر مطالب بتجهيز بيته الأبدي بكل ما هو طيب . من الناحيةالأنثروبولوجية يقهر الإنسان هنا مفهوم الخوف من الموت ، فالموت ما هو إلا مرحلةإنتقالية و سيتحول بعدها الإنسان إلى طبيعة إلهية فيحيا مرتاح البال للأبد و يظلإسمه على الأرض دائما و أبدا .
إن المقبرة في الحضارة المصرية القديمة تمثل" الزمن المقدس " و الإنسان المصري عندما يقوم بتشييد مقبرته ، فهو يبني" الزمن المقدس " في " مادة الحجر " و يمكن القول بأن هذاالزمن المقدس يمتد لجميع المناظر و النقوش الخاصة بالمقبرة ، فالحجر المنقوش بسيرةالمتوفى يتحدى عوامل الفناء و من هنا يقتنع المرء فعليا بأن الحياة الدنيا هي ذاتقيمة ضئيلة جدا بل و تظهر له هذه الحياة و كأنها حلما خاطفا و لعلنا نتذكرالأنشودة الشهيرة للعازف على القيثار في المقبرة رقم 50 في طيبة حيث قال : "لماذا يساء إلى هذا البلد الخالد ؟ لماذا يتحدثون لرفع قيمة الحياة الدنيا ويقللون من قيمة العالم الآخر ؟ إن أسلافنا يرقدون هناك منذ أوائل الزمن القديم وسيظلون هناك إلى الأبد ، فالجميع سيرحل إلى هناك ( العالم الآخر ) و لن يبقى أحدهنا ( عالم الدنيا ) ، فالوقت الذي يمضي في الأرض ليس إلا حلما خاطفا و لكن مرحبافالراحة و البركة لمن يصل للغرب " .
يتضح لنا من هذا النص الشهير ما يلي :
1 – أن هناك تيار فكري في الحضارة المصريةالقديمة كان يسعى للتشكيك في مدى و جدوى فائدة الإيمان بالعالم الآخر فهو يقول" لماذا يتحدثون لرفع قيمة الدنيا و التقليل من قيمة العالم الآخر " وقد عبر هذا التيار عن أفكاره في أناشيد تم تسجيلها على جدران بعض المقابر فيالحضارة المصرية القديمة و هو ما يرجح وجود طائفة كانت لا تؤمن بمفهوم العالمالآخر و ما يحدث فيه .
2 – آمن المصري القديم بأن مصر هي أرض الخلودو أن كل من يدفن فيها يحوز على الخلود و لا يفنى ، فهو يقول : أسلافنا يرقدون هناكمنذ أوائل الزمن القديم و سيظلون إلى منتهى السنين . و أنه لن يبقى أحد في هذاالعالم الدنيوي .
و لكن هل كان القبر هو طريق الخلاص الوحيدللإنسان في مصر ؟
تتحدث بردية " شيستر بيتي " في عصرالرعامسة عن طريق آخر للخلاص فنقرأ في بعض فقراتها : " لم يشيدوا لأنفسهمأهراما و م ينجبوا أطفالا لكي تبقى أسمائهم حية إلا أنهم كتبوا كتبا لكي يقرأهاالآخرون و وضعوا بكرات الكتابة للكهنة المرتلين و جعلوا من لوحة الكتابة الإبنالحبيب فكل ما كتبوه هي أهرامهم و قد بنيت لهم مقاصير صغيرة إلا أنها تهدمت وتركهم كهانهم الميتون و نسيت قبورهم و مقاصيرهم و لكن أسمائهم سميت في كتاباتهمالتي كتبوها و صاروا يذكرون للأبد " .
يتضح لنا من بردية شيستر بيتي و ما جاء فيهاأمورا هامة و هي :
1 – يقارن الكتاب هنا بمفهوم القبر و مايرافقه من طقوس جنائزية ، فالكتاب وفقا لهذا السياق أفضل من المقبرة أو الهرملصاحبه إذا ما أراد الخلود و إستدامة ذكره بين الناس فالمقبرة قد يتركها الكهنةالمرتلين الذين يعملون طقوسا لصالح المتوفى يوما ما و لكن ما يكتبه الإنسان لاينمحي أبدا
2 – هناك قاسم مشترك بين الكتاب و المقبرة (أو الهرم ) فمن يسمي الكتاب هرما ، لابد أن يرى في الهرم شيئا كتابيا فالقاسمالمشترك بينهما هو الخلود في أذهان الأجيال القادمة . فالقبر مثل الكتاب فهو يتجهنحو قراء الأجيال القادمة .
3 – يمكن القول بأن عددا لا بأس به من كتاباتالمقبرة كانت مادة مستوحاة من الأدب المصري القديم ، فالنداء المشهور الذي تمتسجيله على جدران القبور و هو : " نداؤء إلى زائري القبر " نجده فيالكتابات الأدبية المصرية القديمة .
4 – يقوم هذا النص بتشجيع الإنسان المصريالقديم على الكتابة و النبوغ في مجال الأدب إذا ما أراد لنفسه أفضل الطرق نحوالخلاص في العالم الآخر .
و نؤكد هنا أن هناك قاسم آخر يجمع بين الكتابو القبر و هو : تأليف مواضيع و أنشطة المقبرة ، فصاحب القبر يظهر كمؤلف فعليلكتابات و نقوش المقبرة ، فهو يظهر كمؤلف حقيقي لقبره و كتابة سيرة حياته في كلركن من أركان مقبرته ، فالكمقبرة هنا تعادل مفهوم الكتاب .
يظهر القبر بالنسبة للمصريين بوصفه أهم شيءيمتلكونه في هذا العالم فهو يفصح عن " هوية الإنسان الذاتية " و هو" العمل الأعظم " الذي يعيشون من أجله و يصرفون على إنشائه و إكماله كلما ليهم من مال و فكر و إعتقاد ، و هو المكان الذي يمثل " فضائلهم "عندما كانوا أحياء على الأرض و و يبني وجهاء القوم قبورهم خلال حياتهم و يكتبونفيها عن أنفسهم فنقرأ في قبور عصر الدولة الوسطى صيغة كتابية ثابتة تقول :
" أنا الذي قام بتعمير هذه الأرض لكيأكون في مدينة الأبدية و أنفذ فيها أمنيتي و قد إستنفذت إهتماماتي عندما كنت حيالأصل بعد ذلك إلى عمر متميز و بعدما قضيت وقتي بين الأحياء و في ظل مقام صاحبالقبر عند الملك " . كما نقرأ على جدار مقبرة أخرى في طيبة في عصر الدولةالوسطى النص التالي :
" لقد قضيت سنيني في الأرض و دخلت طريقمدينة الأبدية و بعدما أعددت كل الأمور المتعلقة بقبري و التي يجب أن تكون لصاحبالقبر الوقور " . كما نقرأ على جدران مقبرة " حقا إيب " في إلفنتين:
" لقد أكملت بناء هذا القبر و قمتبكتابة نقوشه شخصيا خلال أيام حياتي "
يتبين لنا من تلك النصوص السابقة بعضالملاحظات الهامة و هي :
1 – يتجه المصري القديم لتعيين الموقعالملائم لشكل مقبرته خلال حياته و ذلك لكي تكتمل بهجته و سعادته .
2 – يعتبر القبر في هذا السياق الحضاري المقرو النتيجة الذاتية لتحرياته فهو ينظر إلى مقبرته مثلما ينظر في المرآة إلى نفسه وبناءا على ذلك ينبغي أن تعكس المقبرة حالة مثالية يسعى لها صاحبها .
3 – بما أن المقبرة هي مكان يعكس حالة مثالية، فهي تعكس مفهوم " الماعت " – النظام و الحق و الخير و العدل – و لاوجود " لإسفت " – الفوضى و الباطل و الشر و الظلم – و لذا فلا نتوقعحديث عن أزمات إلا في سياق إظهار صاحبها كما لو كان البطل الأوحد الذي تمكن منالقضاء عليها ، فإسفت هنا إذا تم ذكرها في المقبرة ، فهي تذكر لكي يتم نفيها والقضاء عليها .
هنايثور تساؤل هام : هل يمكن لنا أن نقول بأن القبور في هذا السياق تنتمي لعالمالأهرام و المسلات و المعابد و التماثيل و الأنصاب و اللوحات الجنائزية و كل ماشابه ذلك ؟ ..... نعم ، فالمصري هنا يسعى نحو خلق موقع مقدس لإستدامة ذكره بينالأجيال اللاحقة و على خلق نقطة إتصال بين عالم السلف و عالم الخلف ، فتلك الأماكنالمقدسة تعتبر إستمرارية لذكرهم على الأرض و لهذا يسجلون لأنفسهم بمادة الكتابة .و هذه الكتابة تجعل للقبور و ما شابهها " صوتا مقدسا " تجعل صاحبهاحاضرا أمام الأحياء فهو يتكلم مع و للأجيال اللاحقة و يسمع لهم و من هنا كان القبريربط صاحبه بشبكة من الذاكرة الثقافية الإجتماعية إلى الأبد .