الأحد، 11 أغسطس 2013

إستقراء التاريخ من آثار عصر اللامركزية الأول


بسم الله الرحمن الرحيم 

إستقراء التاريخ من آثار عصر اللامركزية الأول


يسعى الدارس من خلال هذا المقال لتناول كيفية
إستقراء الوقائع التاريخية من خلال الآثار الغير مغرضة أو الآثار التي لا تحتوي
على أي أيدولوجيا دعائية مضللة و عدم الإعتماد على النصوص ذات المغزى الأيدولوجي و
التي تعتمد دائما على توجيه القاريء نحو فهم و إدراك صورة أخرى مغايرة للحقيقة و
إذا ما ورد في النص حقيقة تاريخية لا يرقى لها الشك فذلك بسبب توافق الآثار الغير
مغرضة مع ما ورد في النص . و لا يفوتني في هذا الصدد أن أهدي هذه الدراسة للأستاذة
الزميلة و الأخت القديرة ( منى عاصم الدسوقي ) لتفوقها الدائم في مجال المصريات و
حصولها على تقدير إمتياز في السنة الأولى لدبلوم الآثار المصرية . يشير مصطلح (
عصر اللامركزية الأول ) إلى الفترة الزمنية التي إنحلت و تفتت فيها السلطة
المركزية بعد توالي مجموعة من الملوك الذين حكموا مصر من منطقة منف طوال عصر
الدولة القديمة و يرى البعض من علماء المصريات أن هذا الخط الزمني ينتهي عند آخر
ملك من ملوك الأسرة الثامنة و بعد تلك الفترة صعد حكام من منطقة هيراكليوبوليس –
إهناسيا و أسسوا أسرة ملكية جديدة . و لاريب أن إنتقال السلطة الملكية من منف إلى
هيراكليوبوليس كان يعتبر من وجة نظر المصريين القدماء في المراحل التاريخية
اللاحقة فترة إنتقالية عظمى و فترة فراغ كبير و ما يؤكد هذا الطرح أن كاتب بردية
تورين إعتبر الفترة الأولى من التاريخ المصري القديم تقف عند نهاية الأسرة الثامنة
فضلا عن ذلك فإن قائمة ملوك أبيدوس تجاهلت تماما ملوك الأسرتين التاسعة و العاشرة
إلا أنه ينبغي لنا أن نشير لأمر هام يتمثل ألا و هو : أن حكام إهناسيا لم يتمكنوا
خلال هذه الفترة اللامركزية من إحكام قبضتهم على جميع أقاليم مصرو لاسيما في منطقة
طيبة حيث تمكنت عائلة من حكامها أن تؤسس لنفسها قوة عظيمة و أطلقوا على أنفسهم
ألقابا ملكية و قد ظهروا في الحوليات الملكية المصرية فيما بعد على إعتبار أنهم
أصحاب الأسرة الحادية عشرة و منذ هذه اللحظة و ما بعدها أصبح هناك مملكتان
متصارعتان في البلاد الأمر الذي يعني أن الأسرة العاشرة تعاصرت زمنيا في حكمها مع
الأسرة الحادية عشرة . و إذا أردنا أن تناول هذه الفترة الزمنية تاريخيا فعلينا أن
تبتعد قدر الإمكان عن النصوص التي تحدثت عن هذا العصر من خلال ما وصفته أدبيات
العصور اللاحقة عن ذلك الزمن حيث كانت تهدف لإظهاره بوصفه زمن الفوضى و الأزمات و
من هنا فهي أدبيات مغرضة و سنجتنب كذلك ما ورد في كتابات السير الذاتية لحكام ذلك
الزمن نظرا لغلبة الطابع الدعائي السياسي الأيدولوجي في تلك النصوص و سنكتفي
بالحديث عن تاريخ عصر اللامركزية الأول من خلال الآثار و لاسواها ، فالأثر هو نقطة
البداية و النهاية و نقصد هنا بمصطلح الأثر ، المنتج المادي الغير مغرض و الذي
يمكن لنا أن نستخرج منه معلومات صادقة لا تتسم بالأيدولوجيا لا من قريب و لا من
بعيد . فما هي أهم آثار عصر اللامركزية الأول ؟ و كيف يمكن لنا أن نستقرأ التاريخ
من خلال آثار ذلك الزمن ؟ .... 
1 – إنعدام النماذج الدلالية المعبرة عن وجود سلطة
ملكية ، فلا وجود للأهرامات التي كانت رموز بينة للملكية فهناك إنقطاع معماري
حضاري واضح في تشييد الأهرامات التقليدية إلا أن ذلك لا يعني على الإطلاق إنقطاع
نهائي و كامل في مفهوم القبور المعبرة عن وجود سلطة أو زعامة بل ظهرت في المقابل
سلطات محلية إقليمية عبرت عن نفوذها بشكل و طريقة خاصة داخل أقاليمها المحلية
فاتبعت طرزا معمارية و فنية و حضارية تختلف عن الطرز السلطوية التقليدية لحضارة
منف الملكية و التي كانت سائدة طوال عصر الدولة القديمة . 
2 – كانت مملكة إهناسيا هي المملكة الوحيدة التي
سعت نحو إتباع طراز فني مشابه إلى حد كبير للطرز الفنية لمنف ، فقد إكتشفت بعثة
أسبانية جبانة تحتوي على مصاطب ترجع لذلك العصر ، و إحتوت على قواعد و أساليب فنية
مشابهة لمعايير المدرسة المنفية الفنية القديمة و من هنا ندرك أن إهناسيا سارت على
على تقاليد منف الحضارية إلى حد كبير الأمر الذي يعني أن حكامها نظروا لأنفسهم
بأنهم ورثوا حضارة منف و بأنهم يستحقون شرعية الحكم سياسيا و دينيا . 
3 – على النقيض من ذلك نجد أن معظم أقاليم مصر
العليا خلال ذلك العصر إتجهت لتبني أساليب حضارية معمارية و فنية جديدة و تغاضت عن
عمد قوانين حضارة البلاط الملكي ( سواء كانت منف أو إهناسيا ) الأمر الذي يعني :
أن قانون حضارة منف لم يعد ملزما لأحد في أقاليم مصر العليا و أن الذي يرغب في نحت
تمثال خاص به أو نقش مقبرته الأبدية لم يعد يطلب عمالا من منف و إنما أصبح يعتمد
على عمال محليين فتمخض عن ذلك تقاليد حضارية محلية إقليمية ليس لها خبرات منف و
نؤكد هنا أن إنقطاع حضارة منف في مصر العليا لا يعني نهاية تلك الحضارة هناك و
بشكل قطعي و لا يجوز فهم عصر اللامركزية الأول على هذا النحو ، فقد كان إنقطاع
مؤقت و ذو هدف ، فلولاه لما ظهرت حضارات إقليمية محلية إنتعشت خلال ذلك العصر فقد
إنتقلت مراكز الأنشطة الحكومية من مكان واحد ( منف ) إلى مناطق متعددة و لذا من
العدل أن نشير إلى وجود إزدهار ثقافي عند الطبقات الفقيرة في المجتمع المصري
القديم بسبب الإزدهار الحضاري للمدن في أقاليم مصر العليا حيث أصبح حاكم الإقليم
منشغلا بإقليمه هو فقط ، مما ساعده على تركيز جهوده و نشاطه في منطقة نفوذه
المحلية 

4 – كشفت الآثار في ذلك العصر عن أمر هام : وجود
زيادة ملحوظة في أعداد المقابر الأمر الذي يعني بوجود زيادة في التعداد السكاني
للأقاليم بل و أصبحت المقابر كلها أكبر حجما من ذي قبل و كانت تضم أدوات و منتجات
و أثاث جنائزي أفضل جودة من تلك المعروفة في عصر الدولة القديمة إلا و أنه و
بطبيعة الحال ظلت مقابر الطبقة العليا أكبر حجما و مجهزة بأثاث جنائزي أكثر ثراءا
من مقابر الطبقة العادية أو الفقيرة و كل ما سبق يدل على : أن تلك الأقاليم كانت
تنعم بحالة إقتصادية جيدة و هو ما يناهض و يخالف تماما جميع النصوص التي تناولت
تلك الفترة في عصور زمنية لاحقة و وصمته بزمن الفوضى و الظلام .
5 – كان الفخار السائد خلال عصر الدولة القديمة
يأخذ الشكل البيضاوي المائل الجوانب أما في عصر اللامركزية الأول أصبح هذا الطراز
محدودا و مرفوضا و حل محله الفخار الذي يأخذ شكل الحقائب و من الممكن أن يكون ذلك
التطور في شكل الفخار ناتج عن تغير شكل عجلة الفخراني نفسها و لعل السبب في ذلك
يرجع إلى حقيقة هامة و هي : إدراك المصري القديم لصنع أدوات تستوعب أشياء أكثر من
ذي قبل و لذا فقد كان فخار الدولة القديمة لا يفي بهذا الغرض . و من ناحية أخرى
تجدر الإشارة إلى أن الفخار الذي كان يوضع في مقابر الدولة القديمة كان يتم
إختياره من الأواني التي كان يملكها صاحبها بالفعل في حياته الدنيوية أما في عصر
اللامركزية الأول فقد كانت تلك الأواني تصنع خصيصا كأثاث جنائزي للمقبرة فقط . 
6 – ظهور صناعة و نحت التماثيل الخشبية للحرفيين و
المهنيين بأنواعهم المختلفة و كان هناك زيادة في صناعة الأقنعة الجصية الملونة (
الكارتوناج ) التي تغطي رأس المومياء و أصبح شائعا إستخدام اللوحات التذكارية
الجنائزية التي ترشد عن مكان و موضع تقدمات القرابين في المقابر أو المقاصير
البسيطة المقطوعة في الصخر و كانت كلها منتجات راقية الجودة و الفكر و تدل على
وجود تحول ثقافي في مجتمعات مصر العليا فضلا عن ذلك فإن ظهور مثل تلك المنتجات في
الأقاليم الجنوبية يكشف عن مدى تطور الحرفيين و العمل المهني في ورش الأقاليم و
على وجود أفكار حضارية جديدة أكدت على أن عصر اللامركزية الأول هو عصر لم تتوقف
فيه حضارة مصر أو إنهارت فيه الثقافة ، بل كانت مفاهيم ذلك العصر بمثابة إضافة و
إكمال لأفكار الدولة القديمة و لذا يمكن القول بوجود حقيقتين هما : 
أ – أن هذا العصر لم يهمل أفكار و مفاهيم الدولة
القديمة تماما كما كان يظن البعض من علماء المصريات .
ب – التوسع في إنتاج مفاهيم الدولة القديمة مع
إضافة أفكار أكثر تطورا منها . 
7 – ظهور نصوص التوابيت و التي كانت عبارة عن
تعاويذ دينية سحرية و أدبية تم نقشها بشكل أساسي على جوانب التوابيت الخشبية و كان
أصحاب تلك التوابيت ينتمون للطبقة الرفيعة في المجتمعات الإقليمية و بالرغم من أن
هذه المتون مشتقة في معظمها من نصوص الأهرام إلا أنها تميزت بما يلي : 
أ – نقل جميع الفعاليات و الطقوس الدينية من جدران
المقابر و ما كانت تحتويه من نقوش و مناظر و شعائر إلى جدران التابوت وحده بحيث
تحيط بجسد المتوفى فتصبح أقرب ما يكون له . 
ب – تمد هذه النصوص صاحبها بإمكانية جمع شمل جميع
أعضاء عائلة المتوفى في العالم الآخر بل و كانت هناك نصوص تتحدث عن أن المتوفى
سيستمر في رعايته و إيوائه لجميع الأقارب و الخدم و الأتباع و الأصدقاء في حياته
الأخرى و لاشك أن هذه الفكرة كانت لها إرهاصات أولى في مقابر الدولة القديمة حيث
كان يكتفي الفنان بتنفيذها على جدران المقبرة 
ج – إحتوت هذه النصوص على عادات و تقاليد و مفاهيم
و طقوس التحنيط و الدفن و بهذا فهي تضفي حماية على المتوفى من خلال هذه التراتيل و
تؤكد على وجود حراسة زمنية من جانب معبودات حارسة مختصة بهذا العمل في مكان
التحنيط و على إتمام شعائر التحنيط و الدفن بكل دقة و إتقان و من هنا يتحول
المتوفى إلى كائن سام و مرتفع بل و يرتقي لدرجة إله و يصادق على كل ذلك عالم
الآلهة .
د – تحتوي هذه النصوص على معارف و إرشادات ضرورية
لتزويد المتوفى بخريطة عن العالم الآخر و كل ما يحتويه من طرق و ممرات سماوية و
أرضية كما أنها كتبت بعناية خاصة حيث تم تسجيلها بالحبر الأحمر بدلا من الحبر
الأسود إلا أنه تجدر الإشارة إلى أنها نصوص دينية غير قابلة للترتيل مثلما نفهم من
السياق المصاحب لها بل هي للإدراك و الفهم و الإستيعاب ، فبمجرد تحقيق ذلك سيتمكن
المتوفى من إتباع ما ورد فيها . 
8 – الصعود السياسي لمدينة طيبة و تطور طرز
المقابر المعمارية الصخرية لجبانة الطارف خلال عصر اللامركزية الأول حيث ظهر تحديث
للنظام المعماري المحلي هناك تجلى عمليا في تسوية أفنية فسيحة منحوتة عند سطح تلال
الصحراء و في كل مؤخرة كل فناء صخري و عند التل نجد صف من الأعمدة المربعة التي
تشكل واجهة المقبرة و قد كان هذا الطراز هو البداية الأولى الجديدة لظهور هذا
النموذج المعماري المعروف بإسم ( مقابر الصف ) و الذي سينتشر في بعض أقاليم مصر
العليا . و عند منتصف الواجة الصخرية ذات الأعمدة المربعة يتم حفر ممر قصير و ضيق
في صخر التل و حتى الوصول إلى مقصورة المقبرة التي تضم أيضا بئر الدفن . 
9 – إن تصميم مقابر الصف المكون من العناصر
التالية : و اجهة كبرى صناعية ذات مدخل في المنتصف - فناء مفتوح – واجهة ذات أعمدة
مربعة – ممر قصير و ضيق – مقصورة المقبرة ( قدس أقداس ) يذكرنا بتصميم المعبد
المصري القديم في أبسط عناصره و بمعنى أدق تحويل المقبرة إلى معبد فتصبح شعائر
المقبرة هي ذاتها شعائر المعبد و يتم تقديس المتوفى في عالمه الآخر 
10 – كان الملك إنتف الأول في طيبة هو أول ملك
يتبع طراز مقابر الصف فقام بعمل مقبرة ذات أبعاد عملاقة فقد بلغ فنائها المفتوح
300 متر طول و 54 متر عرض و إحتوت في الداخل على 3 مقاصير عبادة – 3 قدس أقداس (
واحدة للملك و 2 لزوجتيه ) و تعتبر هذه المقبرة بمثابة إعلان عن ملكية جديدة في
الجنوب سعت منذ البداية نحو تمييز نفسها معماريا عن ملكية الشمال خلال عصر اللامركزية
الأول و كان خلفاء إنتف الأول قد إستمروا في بناء مقابر مشابهة لذلك النموذج
المعماري الأول و لم يحيدوا عنه أبدا و عندما إنتقل الملك ( منتوحتب الثاني ) إلى
الموقع الجديد في الدير البحري ، إنتهج أسلوب بناء مشابه في بعض معطياته المعمارية
لأسلوب مقابر الصف في جبانة الطارف .
11 – قام الملك إنتف الثاني بتصوير نفسه في مقبرته
بجبانة الطارف و هو يرتدي التيجان الملكية فهل يعني ذلك أنه قد سيطر فعليا على
البلاد كلها ؟ ... تخلو الأقاليم الشمالية من آثار هذا الملك مما يقلل من
المصداقية التاريخية لهذا المنظر الدعائي و لكن ما يهمنا في هذا الصدد هو الإقرار
بحقيقة هامة ألا و هي : أن هذا الملك و رغم عدم سيطرته على البلاد بأكملها قد تم
تتويجه في معبد الكرنك لأول مرة و لم يتم تتويجه في منف و هو ما كان متبعا خلال
عصر الدولة القديمة و لعلنا نتسائل في هذا الصدد : هل زحف ملوك طيبة نحو الشمال و
إعادة توحيد مصر خلال نهاية عصر اللامركزية الأول كان يستهدف تأكيد شرعية حكمهم
للبلاد من خلال السيطرة على منف و إتمام تتويجهم في معبدها المقدس ؟
12 – آثار الملك إنتف الثاني خلال نهاية عصر
اللامركزية الأول تمثلت فيما يلي : عمود كجزء من معبد قديم في الكرنك يحمل إسمه –
العثور على بقايا معبد للإلهة ساتت في إلفنتين في أسوان مشيد في عصره – بالرغم من
أن ملوك الدولة القديمة هم أول من أهدوا قرابين و نذور لمعبد ساتت إلا أن إنتف
الثاني كان أول ملك يقيم مقاصير لكلا من ساتت و خنوم في إلفنتين و قام بتخليد
نشاطه بوضع كتابات تذكارية على أبواب هذه المقاصير و قد تبعه في ذلك جميع خلفائه
من حكام طيبة و هو ما يؤكد وجود نهضة حضارية معمارية في أقاليم مصر العليا خلال
نهاية عصر اللامركزية الأول سعيا وراء إحكام السيطرة السياسية و إكتساب الشرعية
الدينية .
13 – لا نعلم حتى الآن كيف تمكن أول حاكم إهناسي
في بداية عصر الأسرة التاسعة ( الملك خيتي ) من الصعود على العرش ، فلا زلنا نجهل
الملابسات و الظروف التي أدت إلى ذلك كما أننا نجهل الأصل الإجتماعي لهذا الرجل و
البعض من علماء المصريات يرى أن هؤلاء الملوك قد إستقروا في إهناسيا كعاصمة ملكية
جديدة و هو إقتراح منطقي و مقبول للإعلان عن نهاية الأسرة الثامنة و بداية الأسرة
التاسعة إلا أننا نجد من ناحية أخرى حقيقة هامة و هي أن الملك مري كا رع و هو آخر
حكام إهناسيا قد تم دفنه في سقارة و هي الجبانة الملكية المنفية القديمة فضلا عن
ذلك نجد إسم العرش الخاص بالملك بيبي الثاني ( أسرة 6 ) قد إتخذه 5 ملوك من
إهناسيا خلال ذلك العصر الأمر الذي يدل على أمر هام و هو : أن هؤلاء الملوك كانوا
يشعرون في قرارة أنفسهم أنهم يعملون و يحكمون وفقا للمنظومة السياسية و التقاليد
الحضارية المنفية القديمة إلا أن عدم وجود آثار ملكية خاصة بهم و بنفس الكثافة في
صعيد مصر يؤكد فشلهم في تأسيس قوة مركزية وعدم نجاحهم في إنشاء نظام ملكي مطلق
يسير على نفس النمط السياسي لملوك الدولة القديمة .
14 – بالكشف عن مقابر في سقارة و هليوبوليس و
هيراكليوبوليس و بعض أقاليم الشمال وجد العلماء زيادة في عدد المقابر فضلا عن تنوع
المحتويات الجنائزية و تطور صناعة الأثاث الجنائزي بل و ظهور مصاطب صغيرة لفئة
إجتماعية متوسطة تضم مقاصير مزينة بمناظر جيدة الجودة و بها لوحات و أبواب وهمية و
هو ما يكشف عن طرح هام و هو : عدم وجود أي آثار أو إشارات مادية تدل على وقوع ثورة
إجتماعية – كما وصفتها المصادر التاريخية اللاحقة - أو حرب شرسة بعد نهاية عصر
الدولة القديمة فلا وجود لأي تخريب أو آثار عنف في مقابر الدولة القديمة و لا
مقابر عصر اللامركزية الأول و هو ما يعني أيضا أن الحرب الأهلية التي تناولتها
مصادر عصر اللامركزية الأول بين مملكتي طيبة و إهناسيا كانت ( محدودة الأثر ) و لم
تكن حربا تدميرية بالمعنى الفعلي و ذلك يناهض و يخالف تماما نصوص ذلك العصر التي
مالت نحو المبالغة كثيرا في تصوير تلك الحرب 
15 – ظهور قبور جماعية متعددة لدفن مجموعات كبيرة
من الناس في محيط القبور الإقليمية الضخمة و هو ما يدل على نشأة شخصية إجتماعية
جديدة و هي شخصية ( صاحب الفضل و النعم ) و لا ينبغي فهم هذه الشخصية في ضوء علم
الإجتماع المقارن على أنه ( صاحب سلطة ) و الذي يعتلي منصبا منظما تحت بيروقراطية
معينة ، و إنما هو ذلك الرجل الذي يقوم ( برعاية و إيواء و تموين مجموعة كبيرة من
الناس على حسابه الخاص ) فيصبح مصيرهم متعلق به مما يعني ظهور نخبة أرستقراطية
إقليمية محلية أرادت أن تعبر عن نفسها و سلطتها بالشكل الذي ترغب فيه و تريده و
بوعي تام منها .
16 – إنتشرت مدافن و مقابر فقيرة في الجيزة و
سقارة خلال عصر اللامركزية الأول في وسط و محيط مقابر الدولة القديمة بل و تم
إعادة إستخدام بعض المقابر التي ترجع لعصر الدولة القديمة خلال عصر اللامركزية
الأول و شيدت فوق المقابر القديمة مقابر أخرى لطبقات فقيرة و إستخدموا فيها
العناصر المعمارية للمقابر القديمة و حفرت آبار أخرى بين المصاطب في الطرق التي
تفصلها عن بعضها البعض مما يعني وجود حملة معمارية واسعة النطاق في جبانتي سقارة و
الجيزة غيرت من شكل البناء المعماري التخطيطي للجبانتين الأمر الذي أدى لحدوث فوضى
معمارية ، فقد تم بناء الساحات و المنشآت الجنائزية بلا أي إعتبار واضح فنتج عن
ذلك : إنقطاع و إنقراض الطقوس الجنائزية و تقدمات القرابين التي كانت تؤدى لصالح
الأموات في جبانتي سقارة و الجيزة حيث لم تعد هناك أي إمكانية عملية للوصول لهذه
المقابر القديمة لعمل الشعائر اللازمة لأصحابها . و في واقع الأمر أن هذه المدافن
لم تكن منقوشة و لا تمدنا بمعلومات عن عصرها و لا من هو الشخص المدفون بها و لكن
من خلال وجود بعض الأبواب الوهمية فيها عرفنا أنها ترجع لعصر اللامركزية الأول و
يمكن لنا أن نفترض أن بعض الموظفين المحليين قد ظلوا يعملون في هاتين الجبانتين
خلال عصر اللامركزية الأول و كانوا هم أصحاب هذه المقابر الغير منقوشة فعملوا على
إستحضار بعض معطيات المقتابر القديمة لإنشاء مدافنهم الجديدة . جدير بالذكر أن هذا
الأمر الخاص بإنتهاك المقابر القديمة و عدم إستمرارية الطقوس بها لم يحدث إلا في
جبانتي سقارة و الجيزة فقط   
يتبين لنا مما تقدم أن عصر اللامركزية الأول لم
يكن بهذه الصورة السلبية التي وصفتها المصادر التاريخية اللاحقة التي وصمته بزمن
الفوضى و البؤس و الكوارث و الفوضى ، بل هو العصر الذي أضاف و أكمل حضارة عصر
الدولة القديمة ، فثقافة المجتمع هي ( خبرة تراكمية ) بالمعنى الأنثروبولوجي و
لولا الإنجازات الحضارية التي شهدتها مصر خلال ذلك العصر لما شهدت ذلك التقدم الحضاري
المذهل خلال عصر الدولة الوسطى و الذي تم وصفه بأنه نتاج وحيد لعودة السلطة
الملكية المركزية مرة أخرى ، فأي تقدم حضاري يظهر في أي عصر لا يمكن أن يظهر لمجرد
عودة السلطة الملكية و توحيد البلاد ( و يمكن القول أنه أحد العوامل التي ساهمت في
إنشاء حضارة الدولة الوسطى المذهلة و ليس السبب الوحيد ) و من هنا ندرك أنه لا
ينبغي أن نفهم مفهوم التقدم الحضاري إلا من خلال السلطة الملكية المركزية وحدها
فذلك أمر غير دقيق علميا فضلا عن كونه مناهضا للحقائق العلمية فحضارة منف الملكية
حتى و إن فقدت بريقها لفترة من الزمن إلا أن ذلك نتج عنه إنتعاش حضاري واضح في
الأقاليم المصرية و لم يكن لهذا الإنتعاش أن يظهر لولا أن مرت البلاد بهذه الفترة
التاريخية في حضارتها القديمة و ماضيها التليد . 
          

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق