بسم الله الرحمن الرحيم
طريق الخلاص الجديد في زمن الرعامسة
هل كانت المقبرة هي الطريق الوحيد للحصول على
الخلود في عصر الرعامسة ؟ هل كانت هناك فلسفة للتاريخ لدى المصري القديم ؟ لماذا
إكتسب الكتاب أهمية كبرى في الحضارة المصرية القديمة بشكل عام و في زمن الرعامسة
بشكل خاص ؟.... لعلنا نجد الإجابة على هذا التساؤلات في بردية شيستر بيتي التي
تعتبر واحدة من أهم الوثائق التاريخية التي ترجع لعصر الرعامسة . و قبل أن نخوض في
هذه الدراسة يود صاحبها أن يهديها لزميله العزيز و الأخ القدير الأستاذ ( أحمد
خليل ) لشغفه بعلم المصريات و معرفة كل جديد . و ما يهمنا في هذا المقال الموجز معالجة
ما جاء في القسم الأول من الفصل الثالث من بردية شيستر بيتي حيث تناولت مفهوم
الخلود من وجهة نظر أخرى تختلف كثيرا عن وجهة النظر المصرية التقليدية القديمة و
تتمثل في الحقيقة التالية : أن الكتاب هو أكثر ضمانا للخلود من القبر . فمن يريد
أن يقوم بتخليد إسمه بشكل فعلي و حقيقي فينبغي له أن يبذل كل غالي و رخيص في تأليف
كتاب يبقى بين الناس أي عليه أن يعمل في حقل الأدب الأمر الذي يكشف عن أن القبر لا
يحقق فكرة الخلود الأبدية وفقا لكاتب النص فنقرأ في هذا المقطع الهام ما يلي :
" كن أديبا بكل قلبك فسيكون إسمك خالدا ،
فالكتاب أثمن من صخرة القبر المكتوبة و أثمن من الحجرة المشيدة بصلابة ، فأهمية
الكتب هي أفضل من القبور و الأهرامات في تخليد الأسماء و سيكون شيئا ثمينا
بالتأكيد في العالم الآخر ، فصاحب الكتاب هو إسم في أفواه الناس ، و الإنسان زائل
و يتحول جسده إلى تراب و كل معاصريه قد دفنوا تحت الأرض أما الكتابة فتجعل الناس
يتذكروه ثم ينتقل ما قام به من فاه إلى فاه . إن أوراق الكتابة أثمن من معابد
القبور في الغرب و أفضل من أي قصر و من الصخور التي شيدت بها المعابد . فهل أجد
هنا مثل ( حور جدف ) ؟ أو أحد مثل ( إيمحوتب ) ؟ و هل يستطيع أحد أن ينقل الماء
إلى إيمحوتب أو حور جدف ؟ . ليس هناك من معاصرينا أحد مثل ( نفرتي ) هل هناك أحد
مثل ( خيتي ) و هو أعظمهم ؟ . و أنا أذكر لك هنا أسماء مثل ( خع خبرر سنب ) فهل
هناك أحد مثل ( بتاح حتب ) ؟ فهؤلاء الحكماء الذين تنبؤا بالمستقبل و ما قالوه أصبح
واقعا و قد وجده الناس كحكمة مكتوبة في كتبهم . إن سحر هذه الكتب يمتد إلى جميع
الذين يقرأونها فيحصلون على الخلود . فهم قد ذهبوا و كان بالإمكان ان تنسى أسمائهم
منذ زمان بعيد لكن كتاباتهم تحيي ذكراهم دائما " .
من قراءة هذا النص يمكن لنا أن نستدل على
الحقائق التالية :
1 – نجد هنا طائفة فكرية من الناس في مجتمع
الرعامسة أرادت أن تعبر عن مضمون فكري جديد فيما يرتبط بمفهوم الخلود الحقيقي في
الحضارة المصرية القديمة فهي دعوة مباشرة للإهتمام بقراءة كتب الحكماء السلف الذين
تم تخليدهم في الذكرى الحضارية لمصر بفضل ما كتبوه من كتب ثمينة الأهمية لا بفضل
ما شيدوه من مقابر فهي دعوة للجميع للإهتمام بالأدب إذا ما اراد الإنسان في عالم
مصر ان يرنو نحو الخلود . لكن نشير هنا من ناحية أخرى أنه ليس بالضرورة أن تكون
هذه الأفكار منتشرة عمليا بين جميع طوائف المجتمع المصري القديم خلال عصر
الرعامسة
2 – يحتوي النص على مغزى فكري غير مباشر :
فعندما يشير الكاتب إلى ان الكتاب أثمن من صخرة القبر المكتوبة و أثمن من الحجرة
المشيدة بصلابة ، فذلك يشير – و لو لم تذكر صراحة في النص – إلى إمكانية زوال
القبور نفسها و إلى إمكانية تهدم حجرات المقبرة المشيدة من أقوى أنواع الحجارة ( و
هو ما حدث فعليا في بعض فترات التاريخ المصري القديم ) و لكن الكتاب و ما يحتويه
من قيم و تعاليم ثمينة لا يبلى أبدا و من هنا تمكن أهمية صاحب الكتاب نفسه .
3 – أشار كاتب النص إلى فارق هام بين من يكتب
كتاب للأجيال القادمة و بين من لا يكتب شيئا و يتمثل في الأمر التالي : أن كل
إنسان زائل و سيتحول جسده إلى تراب – نلاحظ هنا عدم الإشارة لأهمية شعائر التحنيط
طريق للنجاة الأخروية - و هذا هو المصير الحتمي للجميع و لن يتذكر الناس سوى شخص
واحد فقط : و هو الكاتب الذي جعل خطابه التعليمي و الأدبي موجه للجميع ، فالفلسفة
الحقيقية للتاريخ وفقا لكاتب النص هو الدخول في مضمار الأدب و التعاليم الحياتية
التي تبني المجتمع ، ففلسفة التاريخ هنا : المشاركة في بناء المجتمع من أجل الحصول
على الخلود .
4 – نلاحظ هنا أنه لا وجود لمفهوم الطقوس أو الشعائر في هذا النص كطريق
لخلاص الإنسان في العالم الآخر و هو ما يناهض و يخالف ما تعارف عليه المجتمع
المصري القديم ، فافنسان في مصر لا ينجو في حياته الأخرى بسبب الشعائر الجنائزية
التي تؤدى له و لا وجود لأهمية طاقم كهنوتي لأداء هذه الشعائر فكل هذه الأمور
غائبة تماما من أفق النص
5 – بفضل سحر الكتابة أصبح المؤلفون الذين ذكروا في النص من الخالدين بل
يمتد هذا الخلود إلى كل الذين يقرؤون كتبهم (يمكن لنا هنا أن نطرح تساؤل هام : هل
يريد كاتب النص أن يمنح طريقا آخر لخلاص الإنسان في عالمه الآخر و التقليل من
أهمية تشييد المقبرة كملجأ و ملاذ لنجاة الإنسان في حياته المستقبلية الأخروية ؟ فهنا
كاتب النص أوشك أن يقول : ما هي فائدة القبور و الأهرام و معابد الغرب لأصحابها
دون وجود كتب ثمينة تنسب إليهم ؟ ) .
6 - الكتابة هنا لم تنتصر على الزمن فقط ، و إنما أصبح الزمن في خدمتها فقد
إزدادت أهمية الكتب عبر القرون بإستمرار لسبب بسيط أيضا ورد في النص و هو : أن هذه
الكتب إحتوت على فرضيات و تعاليم و أمثلة و قيم حياتية و تنبؤات تحققت على أرض
الواقع فهي كتب صحيحة لأن كل ما ورد فيها تحقق فعليا .
7 – نلاحظ هنا الغياب التام لإسم ( سنوهي ) في النص ، فلم يذكره الكاتب
كواحد من كبار الكتاب الكلاسيكيين الذين كان لهم أثر حياتي في مجتمع مصر و السبب
في ذلك أن قصة سنوهي تتعارض مع رسالة هذا النص فسنوهي يضع طريق الخلاص في العالم
الآخر من خلال سعي الإنسان المصري القديم لكي ينال حظوة و رضاء الملكية عنه فلا
يمكن تشييد المقبرة و إقامة الشعائر الجنائزية و أداء طقوس التحنيط إلا عن طريق
السلطة الملكية ، و لذا فمن الطبيعي و المنطقي أن يختفي ذكر سنوهي تماما من هذا
النص .
8 – ينصب تركيز النص على الإهتمام بالماضي ، فعصر الرعامسة هو العصر الذي
يسعى لبعث الماضي المصري التليد من خلال الأدب ، و يكتسب هذا الماضي أهمية لسبب
أنه كان منقطعا عن الذاكرة الحضارية لمصر و من هنا تأتي أهمية إعادة إكتشافه من
جديد و يمكن لنا أن نستشف هذه الحقيقة عندما نقرأ العبارة التساؤلية التي وردت في
النص ألا و هي : و من يستطيع أن ينقل الماء إلى إيمحوتب أو حور جدف ؟ ... فالحاضر
هنا ( و هو زمن كتابة هذا النص ) لا يرتبط بالماضي ( و هي هنا كتب الأسلاف الحكماء
) إلا عندما يصبح هذا الماضي كلاسيكيا ، فالكلاسيكية هي نموذج مثالي لماضي عظيم لا
يمكن تقليده و لايمكن الوصول إليه بل أن أصحاب هذا الماضي الكلاسيكي ( و هم الذين
قاموا بتأليف الكتب الكلاسيكية القديمة ) هم أعظم من أهل الزمن الحاضر و لا يمكن
لأحد من الزمن الراهن أن يصبح مثلهم أو في نفس قيمتهم و أهميتهم و لذا فإن كاتب
النص يؤكد على هذه الحقية قائلا : هل أجد هنا أحد مثل حور جدف ؟ ليس هناك من
معاصرينا أحد مثل نفرتي و هل هناك احد مثل بتاح حتب ؟ إن الحقيقة التي يرنو كاتب
النص للكشف عنها : أن الماضي أعظم من الحاضر ، فالماضي يحمل حكمة الأسلاف الذين تم
تخليدهم بفضل ما كتبوه أما أهل الزمن الحاضر فعليه ان يسير على درب هؤلاء الحكماء
إن أرادوا الخلاص و الخلود في عالمهم الآخر .
9 – ينبغي لنا ان نضع في الإعتبار أنه ليس بالضرورة أن تكون هذه الكتب
الكلاسيكية الماضي قد كتبت فعليا من هذه الشخصيات المذكورة في النص ( مثل حورجدف و
إيمحوتب و غيرهم ) فعادة المصري القديم هي أن ينسب حكم و أمثال و تعاليم و قيم و
تنبؤات إلى شخصيات يفترض أنها عاشت في الزمن الماضي ، فكلما كان النص يرتبط بشخصية
شهيرة عاشت في الماضي ، كلما إكتسب أهمية و مصداقية لدى الجماهير و ليس من الضروري
أن تكون هذه الشخصية قد قالت أو كتبت هذه الكتب بالمعنى الحقيقي أو الفعلي .
10 – يشير النص إلى أن " أقوال هؤلاء الحكماء قد وجده الناس كحكمة
مكتوبة في كتبهم " مما يعكس وعي الشعب المصري القديم في عصر الرعامسة لأهمية
نقل ( التراث الشفهي ) إلى ( تراث مكتوب ) فالثقافة الشفاهية و إن كانت عمليا لها
صفة الإنتشار في المجتمع آنذاك إلا أن ثقافة الكتابة و حفظ ذكرى الماضي العظيم أهم
و أعظم قيمة من الثقافة الشفاهية كما يشير من ناحية أخرى إلى أن أقوالهم الشفاهية
التي يرددها الناس من فاه إلى فاه عبر الأجيال لم يحدث لها تغيير و لم يحدث فيها أي
تعديل حتى زمن كتابتها و لهذا فهي كتابات تتسم بالصحة و المصداقية و لا شأن لنا في
هذه الدراسة بمدى صحة ما ورد هنا من الناحية التاريخية .
يتبين لنا مما تقدم أن كاتب النص يسعى و بكل وضوح لتقديم طريق آخر للخلاص
الأخروي في عالم مصر في زمن الرعامسة و يختلف عن المسار التقليدي للحضارة المصرية
القديمة ، فالرسالة هنا : لا خلاص إلا عن طريق قراءة ما تركه الأسلاف من تراث ثمين
و هو طريق آخر و جديد يختلف عن الفكر المصري التقليدي القديم .