الثلاثاء، 23 يوليو 2013

الملكية المصرية و نبوءات الخلاص في العصور المتأخرة


بسم الله الرحمن الرحيم 

الملكية المصرية و نبوءات الخلاص في العصور المتأخرة


تضمنت الملكية المصرية عبر تاريخها الطويل
صورة تقليدية عن الملك بوصفه إبن الإله الأكبر للدولة و الذي أنجبه و أرسله إلى
أرض مصر لينشر فيها العدالة و يحقق النظام و يقوم ببناء المعابد للمعبودات و يحتفل
بأعيادها و يمد آلهة مصر بمختلف القرابين و العطايا ، و طالما بقي هذا المفهوم
نافذ المفعول ، طالما بقيت مصر في خير و عاشت في سعادة و نعيم . و لاريب أن
النتيجة المنطقية لعدم الإلتزام بهذا البرنامج الذي وضعته الآلهة في بدء الزمان هو
إنتشار الفوضى و تعدد الأزمات بل و إنهيار العالم بأكمله ، و هو ما صورته النصوص
الأدبية المصرية عبر جميع مراحل التاريخ المصري القديم .
 ينبغي لنا هنا أن نطرح تساؤل
ذي مغزى : كيف كان وضع الملكية المصرية في العصور المتأخرة ؟ ...
لم تعد الملكية المصرية تحتفظ بنفس درجة
قداستها القديمة و المعهودة إلا شكليا فقط و ذلك يرجع في المقام الأول إلى التجارب
التاريخية السيئة التي مرت بها مصر طوال العصور المتأخرة و توالي عهود الإحتلال
الأجنبي من عصر إلى آخر الأمر الذي أفضى لوجود أزمات سياسية و إقتصادية و إجتماعية
و دينية و لذلك فإذا كانت الحالة الآنية ( الزمن الحاضر ) لا تتماشى مع النظام
الملكي المصري التقليدي المعهود ، فعندئذ تتوجه الأنظار و تنعقد الآمال نحو الملك
المنقذ و المرسل من الإله الأكبر و الذي يلتزم بتعاليم و وصايا أرباب مصر و يصبح
المطلوب منه : تغيير الأوضاع السيئة للبلاد نحو الأفضل . فعندما وصل الإسكندر
الأكبر إلى مصر إحتضن التقاليد الدينية المصرية و إتجه إلى واحة سيوة لكي يثبت
شرعيته أمام ربه آمون رع بوصفه إبنا شرعيا له و هنا يمكن لنا أن نستشف مجموعة من
الأمور الهامة المرتبطة بتقبل الإسكندر و أي أجنبي كملك مصري و هي : 
1 – بدأ الفكر الديني المصري القديم في تقبل
الحاكم الأجنبي كملك مصري شرعي في العصور المتأخرة طالما سيلتزم بإقامة البرنامج
الملكي المصري التقليدي الذي يعيد مصر إلى زمن السعادة الأسطوري الأول ، فالملكية
الإلهية لا ينبغي لها أن تنقطع أبدا عن البلاد ، كما أن ذلك الملك ذي الأصل
الأجنبي لن يظهر أمام أرباب مصر إلا في صبغة مصرية خالصة تؤكد على تقواه و ورعه و
هو يؤدي واجباته ناحيتها و هو في ذلك يبدو تماما كما و كان ملك يلتزم بنفس ما فعله
الملوك الأسلاف الأوائل فتزول عنه صفته الأجنبية و لا تبدو ظاهرة أبدا . 
2 – لم يكن الإسكندر الأكبر هو أول ملك يسعى
للتظاهر بالتمصير بل سبقه في ذلك الملك الفارسي قمبيز في بداية عصر الأسرة السابعة
و العشرين حينما قام كهنة مصر بترويج قصة – وردت عن هيرودوت - زواج أبيه قورش من
الأميرة المصرية ( نيتتيس ) بنت الملك واح إيب رع ( إيبريس ) الذي قتله الملك أحمس
الثاني ( أمازيس ) ، و كانت تلك الأميرة وفقا لهذه الأسطورة هي آخر أميرة مصرية
يجري في عروقها الدم الملكي أما أمازيس فيبدو هنا مغتصبا للعرش لأنه قتل الملك
الشرعي إيبريس و لذلك فإن زواج قورش بهذه الأميرة المصرية نتج عنه ميلاد الملك
قمبيز الذي جاء لمصر لكي يقضي على أمازيس – المغتصب للعرش - و خليفته بسماتيك
الثالث . فهنا يظهر قمبيز بوصفه ملكا شرعيا لأن أمه حاملة للدم الملكي المصري .
3 – في حالة الإسكندر الأكبر ، نجد أنه أعاد
فعالية المحرك الأسطوري السياسي لمفهوم إبن الإله الذي أرسل إبنه لمصر ليطرد منها
الفرس و يحقق الخلاص لشعب مصر و قام أهل الفكر و الدين في مصر بترويج قصة أسطورية
تتمثل في أن الإله آمون تزوج أمه في هيئة نختانبو الثاني – آخر الملوك الوطنيين
المصريين – فنختانبو هنا يظهر في الأسطورة بوصفه الملك الذي هرب من بطش الفرس و
إتجه إلى البلاط المقدوني – شمال اليونان – و تقمص الإله آمون هيئته عندما دخل على
أم الإسكندر و بهذه الطريقة يصبح للإسكندر نفسه ثلاث آباء : آمون كأب إلهي و فيليب
الثاني كأب شرعي و نختنابو كأب جسدي
و من ناحية أخرى يمكن القول بأن الملكية
المصرية إتخذت صورة أخرى منذ عصر الأسرة الثلاثين تمثل مغزاها عمليا في منشأة (
بيت الماميزي ) فقد قام الملك نختانبو الأول في عصر الأسرة الثلاثين ببناء بيت
الولادة للإله الإبن حور با غرد – حورس الطفل – في معبد دندرة و ذلك لكي يعلن عن
إنتقال الملكية فعليا إلى الإله أو بمعنى أدق لم يعد الحاكم في مصر ، بصرف النظر
عن هويته و منشأه الأصلي ، هو الملك الفعلي ، إنما هو الإله الإبن الذي يتم
الإحتفال بولادته مرة كل عام في بيت الولادة و عندما يصبح شابا يتوج على عرش مصر و
يصبح هو الملك الحقيقي لمصر الأمر الذي يكشف عن حقيقة هامة : 
فشل تجارب الملكية خلال العصورالمتأخرة و
محاولة رد هذا المنصب المقدس و الخطير لأصله و منشأه الإلهي ، فيصبح الإله بنفسه
هو من يحكم مصر و يتولى هو بنفسه إنقاذ البلاد من الأزمات طالما أقيمت له الشعائر
و الإحتفالات الدينية و لم تخلو موائد القرابين من العطايا و الهبات مما يؤكد أن
الأسطورة في مصر كانت حية و قوية للغاية في ذلك الزمن . 
و في واقع الأمر تحولت فكرة الملك المنقذ إلى
مفهوم أسطوري سياسي طاغي للغاية في عقلية المصري القديم خلال الأسرات من 28 – 30 و
ظهرت تقارير و نصوص و نبوؤات تتحدث عن قدوم زمن الملك الذي سيخلص مصر من شقائها و
بؤسها كما تناولت كذلك مفهوم العقاب الذي حاق بالملوك السيئيين الذين لم يلتزموا
بتعاليم الآلهة و لذا نقرأ في البردية رقم 215 في المكتبة الوطنية بباريس حيث تمكن
الفرس من إحتلال مصر للمرة الثانية في عصر الأسرة الثلاثين عام 343 ق.م ثم نجد أن
سبب هذه الكارثة يعزى للملك الذي كان يحكم في ذلك الوقت فلم يلتزم بما جاءت به
القوانين فنقرأ ما يلي : 
" الملك الفلاني خالف القانون فعوقب على
إثمه و عوقب إبنه على إثمه و قد تمكن الفرس من إسقاطه لأنه خرج عن القانون و عندما
نسي نختانبو الثاني العجل أبيس الذي هو ( العجل نفسه ) بتاح و رع و حور سا إيسه و
صار همه جمع المال خسر عرشه على يد الفرس أما عن الملوك الطيبين مثل الفرعون
نفريتيس فلما كانت أعماله صادقة أصبح إبنه خليفة له و لما جاء الملك هكوريس –
الأسرة 29 – و حكم البلاد رضيت عنه الآلهه و جعلت مصر في سعادة لأنه كان لا يعمل
إلا الخيرات في المعابد كلها و عندما حاد عن القانون في مرحلة متأخرة من حكمه
أسقطه من حوله من على عرشه لأنه لم يعتني لا بأربابه و لا برعيته " 
هنا يمكن لنا أن ندرك مجموعة من الأمور
الهامة حول مفهوم الملكية المصرية في العصور المتأخرة تتمثل فيما يلي : 
1 – ظهور فكرة الذنب و الإثم في تاريخ
الملكية في العصور المتأخرة و هي فكرة لم نكن نسمع عنها قبل ذلك العصر ( إلا في
حالة واحدة فقط و هي تعاليم الملك خيتي الثالث لإبنه مري كا رع ) . 
2 – يشير النص إلى أن الملك الطيب الملتزم
بقوانين المعبودات يتم مكافئته بالحكم  الطويل
و بوراثة العرش من جانب إبنه بعد وفاته أما الملك السيء فلا يحكم إلا وقتا قصيرا
ثم يتم إغتصاب العرش منه لأنه حاد عن الطريق السليم . 
3 – صارت جميع الأحداث في مصر تتم وفقا
لسياسة الملك مع المعبودات و أصبحت قراءة التاريخ في العصور المتأخرة تتجه نحو
تفسير جميع الوقائع بوصفها مشيئة إلهية نافذة و رغم وجود بوادر هذه الفكرة في
العصور السابقة إلا أنها أصبحت حاضرة بقوة أكبر مما سبق في العصور المتأخرة .
و هنا ننتقل لفقرة أخرى من نفس البردية
تتناول فيها نبوءة إقتراب زمن الملك الوطني المخلص فنقرأ على سبيل المثال ما يلي :
" و عندئذ سيأتي ملك مصري قادم من
هليوبوليس ثم سيتجه إلى إهناسيا و سينجح في السيطرة على جميع البلاد و كذلك سيصبح
حاكما على البلاد الأجنبية و سيفتح بوابات المعابد و سيقدم القرابين للآلهة و
ستقام الأعياد و ستكون مصر أسعد مما كانت عليه في السابق " . 
كما نقرأ في نص كهنوتي آخر نبوءة أخرى ترجع
لعصر الأسرات من 28 – 30 و هي عبارة عن نبوءة صادرة من معبد كبش إهناسيا ( حري شا
إف ) حيث يبدأ النص في وصف الفوضى التي أحاقت بالبلاد في ذلك العصر فنقرأ : 
" سيحدث في ذلك الزمن بأن يصبح الغني
فقيرا و ستحدث مفاسد كثيرة في مصر و الويل لمصر ، ستنتحب البلاد كلها بسبب اللعنات
التي أصابتها و ستنتحب منف و طيبة " ... ثم يتم توجيه سؤال لكبش إهناسيا
للإستفسار عن زمن ذلك الحدث فيقال له : " متى سيحدث كل هذا ؟ " 
عندئذ قال كبش إهناسيا : " عندما أكون
أنا الصل الملكي فوق رأس فرعون ستحدث هذه الأحداث إلا أنني سأحكم بنفسي مصر بعد
إنتهاء هذه الأحداث السيئة أي بعد مرور 900 سنة و عندئذ سينتهي الظلم و ستسود
القوانين في البلاد و ستحكم مصر مرة أخرى بلاد الشام و بسبب السعادة التي ستحدث في
مصر سوف لا يتمكن الإنسان من الكلام و سيكون مصير من يكره الإله هو الشقاء و العدد
القليل من الناس الذين سيكونون في مصر سيقولون : ما أجمل لو عاش آبائنا و أجدادنا
في ذلك الزمن الذي سيأتي " 
يتبين لنا من النصين السابقين حقائق هامة
تمثلت فيما يلي : 
1 – لم يكن ظهور الإسكندر و الملوك البطالمة
في رداء الملوك الوطنيين المخلصين لمصر من أزماتها أمرا جديدا بل هم إعتمدوا في
ذلك على تراث مصري تم تكوينه في فترة زمنية طويلة و كان منتشرا بين الشعب المصري
في العصور المتأخرة بفضل الجهود الكهنوتية المصرية التي سعت للتبشير بإقتراب زمن
الخلاص و قدوم الملك المنقذ . 
2 – تشير النبوءة الأخيرة بأن الآلهة بنفسها
ستتولى قيادة و حكم هذه البلاد فيظهر كبش إهناسيا حري شا إف بأنه سيحكم مصر بعد
مرور 900 عام – أي بعد إنقضاء زمن الظلم - و نلاحظ هنا من ثنايا هذه النبوءة أنها
صنعت و نسجت من جانب كهنة إهناسيا الذين بشروا بخلاص مصر الذي لن يتحقق إلا من
خلال ربهم كبش إهناسيا حري شا إف 
3 – إرتبط مفهوم الخلاص في العصور المتأخرة
بتجارب الظلم السياسية و أصبح التاريخ المصري يسير على النحو التالي : ظلم سياسي
بسبب عدم إحترام القانون – عقاب إلهي حتمي – خروج نبوءة تبشر بإقتراب و قدوم زمن
الملك المنقذ – ظهور الملك المنقذ و عودة الآلهة بنفسها لحكم مصر و إسترجاع زمن
السعادة أو العصر الذهبي الأسطوري الأول .
4 – أصبح القانون و لأول مرة في العصور
المتأخرة مستقلا إلى حد كبير عن الملك الحاكم ، فلم يعد الملك يجسد القانون الإلهي
، و إنما أصبح مضطلعا به لكي يعمل بموجبه و يلتزم به و ينفذه . 
يتبين لنا مما تقدم أن الملكية المصرية في
العصور المتأخرة إختلف وضعها عن ما كانت عليه من قبل ، فحتى نهاية عصر الدولة
الحديثة كان الإنقاذ من جميع الأزمات لا يأتي إلا من جانب الملكية ، فبمجرد صعود
الملك على العرش عمل طقوس التتويج و إقامته للإحتفالات الخاصة بالأرباب ينتهي زمن
الفوضى و تعم السعادة في البلاد ( نستثني هنا فقط أزمة العمارنة و ما تبعها من
نتائج ) فالفوضى لا تأتي إلا من البشر أما الخلاص فلا يأتي إلا من الملكية ، أما
في العصور المتأخرة فقد تغير شكل الملكية المصرية رأسا على عقب نظرا لأن الخطر
الآن أصبح يأتي من أعلى أي من الملوك السيئين الذين لا يحترمون قوانين أرباب مصر و
من هنا ندرك أن الإنسان في مصر لم يعد بحاجة إلى الملك الذي تتجسد فيه صورة الإله
حورس بل أصبح في حاجة إلى الملك الذي يلتزم بما يلي : 
1 – إستحضار ماضي الآلهة الأوائل من خلال رعاية
الحيوانات المقدسة في معابد مصر حيث كانت تجسد الصورة الأزلية الأولى لأرباب مصر
الذين حكموا البلاد في عصر السعادة الأول . 
2 – إستدامة تقدمات القرابين فلا تخلو موائد
الأرباب منها أبدا 
3 – إقامة التراتيل الدينية السحرية التي
تهدف لضرب و إعاقة ثعبان الشر الأسطوري ( عبب ) فضلا عن توجيه الطعنات و صب
اللعنات على المعبود ست الذي تشيطن و أصبح رب الأجانب و الغزاة و ذلك لكي لا تندلع
الحروب الأهلية في البلاد و لا تكون هناك أي إنتفاضات و لا يتمكن الأعداء من غزو
مصر 
4 – الإهتمام بإقامة أعياد أوزير في البلاد
كلها حتى ترجع مصر زمنيا للعصر الذي كان يحكم فيه أوزير بنفسه عندما كانت البلاد
في نظام و سلام و خير مطلق و حتى تبقى القوانين سارية المفعول و لكي يعيش الناس في
إحترام متبادل مع بعضهم البعض و يحل الرخاء من جديد .
و في إطار هذا السياق لم يعد ينتظر من
الملكية المصرية سوى إطاعة الأوامر بدقة و السعي وراء خدمة الأرباب و تقديم
الضمانات المادية لإقامة هذه الخدمات و تلك هي رسالة حكماء و كهنة مصر في العصور
المتأخرة .  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق