بسم الله الرحمن الرحيم
المغزى الدينى لمنشأة ( بر دوات ) فى الحضارة المصرية القديمة
نحاول فى هذا المقال أن نتناول المغزى الدينى لمنشأة ( بر دوات ) التى ورد ذكرها فى العديد من النصوص المصرية القديمة و إرتباطها الوثيق بمفهوم الملكية المصرية و قداستها الشديدة . وفقا لما هو متاح لدينا من قرائن أثرية بالغة الأهمية ، فقد نسجت العقيدة المصرية مفاهيم أسطورية حول شخص الحاكم أو الزعيم منذ عصور ما قبل الأسرات . و تبعا لهذه التصورات فقد كان الحاكم يمتلك قوة و طاقات سحرية تجعله فوق مستوى غيره من عامة الناس .
و لا ريب أن هذه المقومات و القدرات السحرية التى يمتلكها كانت ضرورية لأداء وظيفته على أكمل وجه ، حيث يستطيع من خلالها أن يتحكم فى قوى الطبيعة المختلفة و أن يحدث إنسجام فيما بينها لصالح الشعب الذى يحكمه ، و هى كذلك ضرورية لكى يكون مؤهل للإتصال بعالم الآلهة العلوى و القيام بدور الوساطة بينهم و بين البشر و من هنا فقد كان لجسد الملك قدرات و طاقات سحرية كامنة فيه توهب له منذ و لادته الأولى و تمنح له مرة أخرى عند إعتلائه العرش . و لذلك من الممكن أن تصيب هذه الطاقات السحرية من يتعرض لها أو يقترب منها بالأذى إذا لم يكن مؤهلا للتعامل معها و تجنب خطرها ، فقد كان لابد من القائمين على خدمة الملك أن يكونوا أهلا للتعامل مع هذه القوى السحرية حتى يتمكنوا من الإتصال أو الإقتراب أو ملامسة الملك الحاكم
و ينبغى لنا هنا أن نؤكد على أمر هام : إن كل عمل يؤديه الملك يوميا منذ لحظة الإستيقاظ و حتى النوم يتم فى إطار طقسي شعائرى مسرحى يتسم بطابع قدسي ، فلم تكن أفعاله مبتذلة تحاكى أفعال البشر بل هى مضاهاة و تقليد لأفعال الآلهة ، فلا يأتى الملك عملا إلا و كان تقليدا لعمل قام به أحد المعبودات فى النشأة الأولى
و فرضت الأطر الدينية المقدسة للعقيدة الملكية المصرية على كل ملك أن يقيم كل صباح طقوس إغتسال و تطهير و تطييب بالعطور علاوة على العناية الموجهة لشعره و أظافره ثم كسوته بما يلائم من الملابس الملكية ثم يتم وضع التيجان المناسبة على رأسه و تزويده بالشارات و الرموز التى تتناسب و تتلائم مع طبيعة النشاط الذى سيؤديه الملك بعد ذلك مباشرة
و من هنا تظهر الأهمية الدينية لمنشأة ( بر دوات ) بإعتبارها المكان الأول الذى تتم فيه الشعائر الملكية الأولى بمجرد إستيقاظ الملك من نومه . و قد إختلفت آراء الباحثين حول معنى ( بر دوات ) فقد رأى بعضهم أنها مكان يمثل عبادة ( الكا الملكية ) و رأى البعض الآخر أنها تمثل ( بيت العبادة ) على أساس أن كلمة ( دوات ) تعنى الصلاة أو الدعاء و كان عالم المصريات ( جريفث ) هو أول من إقترح ترجمة ( بر دوات ) بمعنى ( بيت الصباح ) و هى التسمية المقبولة فى الأوساط العلمية نظرا لأن الطقوس كانت تقام فيها فى الصباح الباكر و ما يؤكد ذلك هو المخصص التصويرى المعبر عن ( نجم الشعرى ؟ ) بما يعكس إقامة الشعائر داخل تلك المنشأة فى توقيت مبكر يسبق شروق الشمس
و هناك شبه إجماع بين الدارسين على أن بيت الصباح كان قائما فى القصر الملكى و المعابد كموقع يتم فيه العديد من الشعائر التى تتعلق بإغتسال الملك و إرتدائه الملابس و التيجان و الشارات الملكية المقدسة ذات الطابع السحرى
إن طقوس ( بر دوات ) ترجع نشأتها لديانة الشمس . فقد تأكد لنا من القرائن الأثرية أن شعائر التطهير و الإغتسال تستمد فكرتها و مغزاها من ديانة الشمس و يرجع ذلك إلى قوة تأثير كهنة ( هليوبوليس ) فى العقيدة المصرية منذ عصور ما قبل الأسرات ، فقد دأبت النصوص المصرية القديمة على الربط ما بين الإغتسال و الطهارة و بين معبود الشمس ، و طبقا لهذه النصوص فقد كان إله الشمس ( رع ) يغتسل كل صباح فى البحيرة المقدسة الموجودة فى معبده فى عين شمس قبل ميلاده الجديد – أى قبل أن يشرق مباشرة فى الصباح الباكر – و لذلك إرتبطت الولادة فى ديانة الشمس بالإغتسال بالماء .
و لا ريب أن ما تقدم يتفق مع ما ورد ذكره فى أسطورة الشمس القديمة حيث أشارت إلى ولادة معبود الشمس ( رع ) لأول مرة من المياه السرمدية ( نون ) ، و قد وجدت هذه المفاهيم طريقها مباشرة إلى عقيدة الملكية ، و حدث نوع من الإنصهار و التفاعل الدينى و السياسي بين حورس ( رب الملكية ) و ( رع رب الشمس ) منذ بدايات العصر العتيق و عندئذ إكتسب ( حورس ) السمات المميزة لإله الشمس ( رع ) و بما أن الملك هو تجسيد لحورس السماء على الأرض فقد أصبح نتيجة لذلك تجسيدا لرب الشمس ( رع ) ، و تبعا لما سبق إكتسب صفات و سمات الشمس التى من أهمها سمة الولادة المتجددة نتيجة الإغتسال و التطهير الطقسى
و أكدت نصوص الأهرام على هذه العلاقة التى تربط بين الملك المتوفى و معبود الشمس ( رع ) حيث يتم غسل الملك المتوفى قبل أن يصعد إلى السماء حتى يكتسب خصائص ( رع ) و فضلا عن ذلك فقد كان الماء الذى يتم الإغتسال به يأتى من البحيرة المقدسة فى ضاحية عين شمس ، و يشرف على هذا الإغتسال كاهنان يجسدان ( حورس و تحوت ) أو ( حورس و ست ) فهما اللذان يشرفان على إغتسال ( رع ) كما ورد فى النصوص و أحيانا أخرى نجد فقرات من متون الأهرام تشير إلى تطهير الملك من جانب أربع كهان يجسدون آلهة الكون الأربعة ( حورس و تحوت و آتوم و دون عنوى ) و عادة ما تصف النصوص إغتسال الملك بالمياه بأنه إكتساب للحياة و الحظ السعيد مثل رع للأبد
يتبين لنا مما سبق أن وجود البحيرة المقدسة فى جميع المعابد المصرية لم يكن أمرا إعتباطيا ، فهى تحاكى بحيرة معبد الشمس فى هليوبوليس و كان ينبغى على الملك أن يغتسل فى هذه البحيرة قبل أن يدخل إلى المعبد ، و لم يكن هذا الطقس يهدف فقط إلى الطهارة ، بل كان يشير إلى ما هو أعمق من ذلك و هو : إعطاء و منح الحياة للملك و التأكيد على ولادته الجديدة مثل ميلاد ( رع ) اليومى
و يتفق ذلك بوجه عام مع إرتباط الإغتسال و الزينة الملكية بالموقع المسمى ( بر دوات ) – بيت الصباح من ناحية و إرتباطها الأساسي بديانة الشمس من ناحية أخرى ، فكلمة الصباح هنا ترتبط إرتباط قوى بديانة الشمس ، فقد كان الوقت الذى يغتسل فيه إله الشمس ( رع ) يوميا هو وقت الصبح المبكر قبل شروق الشمس مباشرة
و قد كان ذلك هو الوقت المناسب لدخول الملك إلى معبد الشمس أو أى معبد آخر بإعتباره خادما أو كاهنا له ( فضلا عن كونه إبنا و تجسيدا له فى نفس الوقت ) و بالتالى فقد كان على الملك قبل دخول المعبد مباشرة فى الصباح الباكر أن يغتسل فى بحيرة المعبد و من هنا فقد إرتبطت هذه الشعائر بوقت الصباح و أصبح الموقع الذى يتم فيه تلك الطقوس هو ( بيت الصباح – بر دوات )
و لا يعنى ذلك أن بيت الصباح إقتصر وجوده فى المعابد ، بل ذكرت النصوص المصرية و لا سيما فى مقابر كبار رجال الدولة فى عصر الدولة القديمة أن بيت الصباح إرتبط أيضا بالقصر الملكى فقد كان يمثل مجموعة من الحجرات أو الأجنحة داخل القصر الملكى حيث تتم فيه كل صباح شعائر الإغتسال و الملابس و الزينة الملكية تأكيدا على علاقة الملك برع
تنوعت الطقوس التى كان يؤديها الملك داخل بيت الصباح ما بين إغتسال و تطهير بالمياه المقدسة و حرق البخور و مضغ النطرون ، فقد كان على الملك أن يمضغ حبات النطرون حتى يصبح فمه مثل ( فم عجل رضيع يوم ميلاده ) مثلما ذكرت نصوص الأهرام التى أشارت إلى ميلاد رع فى صورة عجل شمسي صغير فى الصباح الباكر و من هنا فإن مضغ حبات النطرون الطاهرة تجعل الملك يحاكى ذلك العجل الشمسى لحظة ميلاده فى بيت الصباح .
و لا يفوتنا هنا أن نذكر أن شعائر بيت الصباح قد إنتقلت إلى جميع المعابد المصرية كمحاكاة لمعبد الشمس ثم إنتقلت أيضا إلى الطقوس الجنازية و بوجه عام طقوس فتح الفم التى أصبحت جزء من نفس الشعائر التى تتم داخل بيت الصباح و أمام المقبرة . و من هنا نرى أن الطبيعة الطقسية لوظائف بيت الصباح تطلبت مشاركة الكهنة المرتلين الذين عرفوا بلقب ( غريو حب ) و هم يقومون بتلاوة تراتيلهم السحرية خلال تلك الشعائر داخل بيت الصباح و لذلك ظهر لقب فى منتهى الأهمية إرتبط بهؤلاء الكهنة و هو ( أمين سر بيت الصباح ) – ( حرى سشتا إم بر دوات ) خلال عصر الدولة القديمة فكل من يحمل هذا اللقب هو كاهن مرتل فى بيت الصباح ، و لذلك تظهر لدينا مناظر هامة فى معبد الشمس للملك ( نى أوسر رع ) فى أبو غراب توضح الدور الدينى الطقسى الذى كان يقوم به الكهنة المرتلون داخل المعبد حيث يظهر الملك جالسا على عرشه و أمامه أحد الكهنة يقوم بصب الماء على قدمى الملك ينما يقف خلفه كاهن مرتل آخر يقوم بتلاوة بعض التراتيل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق