بسم الله الرحمن الرحيم
( الديانة الشمسية منذ عصور ما قبل التاريخ و حتى بداية عصر الدولة القديمة )
لا ريب أن للديانة الشمسية تاريخ حافل فى الحضارة المصرية القديمة ، حيث توالت حلقاتها الأولى منذ بداية فجر التاريخ المصري القديم و حتى نهاياته . و تكمن فكرة هذه الدراسة فى الكشف عن الجذور التاريخية للديانة الشمسية منذ فترة ترحال الإنسان المصري القديم فى العصور الحجرية القديمة و العصر الحجرى الحديث و دوافع تقديس الشمس و إرتباطها بالملكية المصرية الناشئة خلال عصر الأسرة ( صفر ) و إزدياد الروابط بينهما حتى بدايات الدولة القديمة و أود فى هذا الصدد أن أهدى هذا المقال للأستاذ المحترم ( طه أمين ) الذى تشرفت بمعرفته منذ وقت قريب
يرى المرحوم دكتور عبد العزيز صالح أن المصري القديم وجه شطره نحو الشمس منذ أن كان فى ترحال فى العصور الحجرية القديمة فى الصحراوين الشرقية و الغربية ( انظر مقال قصة الدين فى مصر القديمة ) و قبل أن يستقر فى وادى النيل ، و يغلب على الظن أن قداستها نشأت لدى جماعات الترحال بسبب الرهبة منها و تقديرا لجبروتها . و يتفق الدارس مع تلك النتيجة و يضيف عليها أن أقدم الإشارات المحتملة لوجود تقديس شمسي مرجح يرجع إلى العصر الحجري القديم الأوسط فى مصر و بالتحديد فى وادي النيل ، حيث عثر على أقدم دفنة معروفة حتى الآن فى مصر وادى النيل فى منطقة الترامسة بجوار معبد دندرة ، و هى هيكل عظمى لطفل يتراوح عمره من ثمان إلى عشر سنوات و كان مدفونا فى حفرة يبلغ عمقها متر واحد و الأمر الغريب فى هذا الإكتشاف ينطوى على وضع الطفل داخل الحفرة ، فقد كان جالسا و يتجه برأس مائلة ناحية الشرق ! و هو وضع يدل صراحة على أن الدفنة بأكملها لم تكن إعتباطية ، فهل يدل ذلك الوضع على إرهاصات أولى لتقديس الشمس فى تلك الفترة ( 55000 قبل الميلاد ) ؟ يرجح أن المصري القديم تمنى منذ ترحاله فى فجر وجوده على الأرض المصرية أن يلتحق بالشمس الغاربة عندما يواري جسده التراب و أن يولد من جديد مثلما تولد الشمس فى الصباح الباكر فأراد أن تندمج روحه معها و هى الفكرة التى تبلورت لديه إلى حد كبير فى بدايات العصر الحجرى الحديث فى وادى النيل و الدلتا عندما عرف مفهوم الإستقرار النهائى و الدائم على الأراضى المصرية . و من هنا نجد دفنات أولى قرى العصر الحجري الحديث فى ( مرمدة بنى سلامة – 5500 إلى 4100 قبل الميلاد – 51 كم شمال غرب القاهرة ) وقد كان وجه الميت يتجه ناحية الشرق أو الشمال الشرقى مما يحتمل وجود بعض المفاهيم الشمسية الجنزية البسيطة التى تربط مصير المتوفى و عودته للحياة مع إستقبال شروق الشمس ، و لاريب أن المصري القديم فى تلك الفترة و بعد أن مارس حرفة الزراعة فى بدايات إستقراره على حواف الدلتا و وادى النيل أدرك أثر الشمس فى حياة الزرع و خروج النباتات من باطن الأرض و تفتح أوراقها بفضل ملامسة الأشعة الشمسية لها مما كان له أكبر أثر و نتيجة فى إيمانه بقوة و إمكانية عودة الروح للمتوفى فى عالمه الآخر و أن الموت ما هو إلا مرحلة إنتقالية نحو عالم ماورائى تستقر فيه روحه للأبد ، و من المرجح أن أهل الفكر فى العصر الحجري الحديث قد لاحظوا أيضا أن الشمس تتحكم فى شئون الكائنات جميعا ، فهى تجبر نجوم الليل على الإختفاء كلما أشرقت و تجبر جماعات البشر و الحيوانات و الطيور على الإنطواء كلما غابت فكانت تلك هى دوافع تقديسها فى تلك الفترة .
إن أولى الإشارات الدينية المؤكدة لتقديس الشمس ترجع إلى بداية عصور ما قبل الأسرات و بالتحديد حضارة نقادة الأولى ( 3900 – 3600 قبل الميلاد ) حيث كشف بترى عن طبق بيضاوى الشكل من الفخار فى قرية نجاده فى قنا ( و هو معروض حاليا فى المتحف المصري فى الدور الثانى بجوار قاعة مومياوات الحيوانات ) ، يظهر فيه تصوير لشمس المشرق و شمس المغرب فى بساطة و واقعية و يتوسط الطبق منظر لمثلثين كبيرين مرسومين بخطوط طولية و عرضية متقاطعة و منتظمة و على أطراف الطبق نجد تصوير للمياه و الأمواج التى تحيط بالمثلثين و يلاحظ على هذا الطبق عدد من الحقائق الهامة و هى :
1 – إن المياه التى تحيط بشكل المثلثين هى تجسيد للمياه الأزلية الأولى التى ستلعب دورا هاما فى أساطير الخلق فى العصور التاريخية و ربما كانت أيضا تجسيدا لمياه الفيضان التى تغطى أرض مصر بأكملها و لا تعارض هنا بين الفكرتين ، فمياه الفيضان هى التطبيق العملى لمياه الخليقة الأولى
2 – إن شكل المثلثين هما تعبير عن تل الخليقة الأول الذى سيتجلى عليه الإله الخالق فى بدء الزمان ( انظر مقال دكتور أحمد سعيد – نشأة الأديان مابين الترحال و الإستقرار ) و هى من المفاهيم الدينية التى ستتضح بقوة فى العصور التاريخية و يرى البعض الآخر من دارسي ما قبل التاريخ ( لوك واترين و باولو جارثيا ) أن المثلثين الملتصقين ببعضهما على الطبق هما تصوير فنى هندسي أول لشكل جبل الأفق المكون من تلين تشرق و تغرب من خلالهما الشمس و لذلك كان تصوير شمس المشرق و المغرب فى ذلك الإطار أمرا مفهوما و مقصودا لذاته
3 – عدم وجود أى هيئة حيوانية أو إنسانية فى المنظر ربما يدل على إيمان المصري القديم فى تلك الفترة بقوى ما ورائية تتحكم فى الظاهر الكونية الطبيعية دون حاجة لتجسيدها فى هيئة بعينها و بمعنى آخر أننا هنا لا نجد معبود واضح المعالم يسيطر على تلك الظواهر و لا سيما و أنه فى ذلك العصر لم يكن قد توصل إلى مفهوم الدين بالمعنى الوضعى ، فديانة أى معبود تحتاج إلى مجموعة من العناصر كى تكتمل و هى
أ – معبود بإسم معروف
ب – رمز للمعبود أو عنصر تكمن فيه قوته
ج- رجال دين أو كهنة يمثلون الصلة بين المتعبدين و المعبود
د – مؤمنون بالمعبود أو مريدون له
ه – مكان للعبادة يتمثل فى وجود معبد أو مقصورة
و – شعائر و طقوس تقام فى فترات منتظمة و توجه للمعبود
ز – تقدمة قرابين
و نظرا لعدم وجود آثار ترجع لعصر نقادة الأولى تؤكد وجود العناصر السابقة بأكملها ، فيرجح الدارس أن الإرهاصات و المعتقدات الشمسية الأولى فى تلك الفترة كانت عبارة عن فلسفة لاهوتية شمسية مبكرة لم ترقى بعد لأن تتحول إلى عقيدة أو ديانة شمسية مكتملة الأركان و العناصر و ربما تبنى هذه الأفكار اللاهوتية الشمسية الأولى أهل النخبة و الصفوة الفكرية فى بداية عصور ما قبل الأسرات ( أنظر مقال نشأة الديانة ما بين الترحال و الإستقرار خلال العصور الحجرية فى بعض بلاد الشرق الأدنى لدكتور أحمد سعيد )
4 – تصوير الفنان المصري القديم للحظتين زمانيتين على طبق نقادة تعبران عن مشرق و مغرب الشمس يؤكد على أمرين :
أ – قدرة الفنان على ربط لحظتين زمانيتين مختلفتين فى مشهد واحد
ب – وجود إرتباط بين شكل العالم البيضاوى الذى يعيش فيه الإنسان المصري القديم و مجرى الشمس منذ الشروق و حتى الغروب مما جعل الفنان يختار هيئة بيضاوية مقصودة لذاتها لتنفيذ ذلك المنظر
دون أن ينصرف إلى الأذهان أن المصري القديم إكتشف كروية الأرض كما زعم بعض الأفراد الغير متخصصين
و خلال عصر نقادة الثانية ( 3600 – 3200 قبل الميلاد ) ، نرى أن المعتقدات الدينية كانت فى سبيلها إلى الإستقرار و التبلور و إرتبط ذلك بأن بعض القرى سارت فى طريقها نحو التحول إلى المدن التى ستصبح فى بدايات الأسرة الأولى عواصم للأقاليم ، فظهر فى عصر نقادة الثانية و رموز و شارات دينية مقدسة لمعبودات بعينها و لعل أهم الإشارات التى صورت على أوانى فخار نقادة الثانية كانت ألوية كبائن المراكب التى برهنت على ظهور مقاصير المعبودات فى تلك الفترة ، و التى إتفق معظم العلماء على أنها إشارات لمعبودات القبائل التى إنتشرت فى وادى النيل و إستقرت فى المدن التى نشأت تحت حماية آلهتها و آلهة محلية جديدة إختارتها لنفسها ، ثم تآلفت تلك المدن مع بعضها و تكونت المقاطعات و الأقاليم و أصبح لكل منها معبود إرتبط إرتبط برمز الإقليم ، ثم إتحدت فى النهاية تلك الأقاليم تحت راية معبود واحد مع إستمرار ديانة المعبودات المحلية . أما أشهر الرموز التى جاءت على ألوية المراكب فهى قرص الشمس رمز المعبود ( رع ) مما يدل على وجود مقاصير شمسية فى مصر متفرقة ما بين الشمال و الجنوب و أن الشعائر و الطقوس كانت تؤدى بشكل منتظم لذلك المعبود من خلال وسطاء ( كهنة ) و يمكن القول أنه من خلال الحفائر التى قامت فى السنوات الأخيرة فى عين شمس ثبت لدينا أن مركز عبادة الشمس الرئيسى قد إستقر فى عين شمس خلال عصر نقادة الثانية مع وجود مراكز ثانوية شمسية أخرى فى مدن الشمال و الجنوب
و بدخول مصر فى مرحلة حضارة نقادة الثالثة ( من 3200 الى 3000 قبل الميلاد ) التى توافرت آثارها و تنوعت فى معظم أنحاء مصر من جنوبها و حتى الدلتا و وصلت إلى شمال سيناء و جنوب فلسطين ، و تخللت تلك المرحلة ما يطلق عليه الآن الأسرة ( صفر )، تأسست عدة مدن سياسية و دينية إرتبطت بمجموعة من المعبودات كان لها أدوارها البارزة طوال التاريخ المصري القديم ، فانتشرت شواهد العبادة الشمسية و لا سيما و أنها ظهرت بوضوح على صلايات تلك الفترة التى عرفت بإسم ( صلايات حيوانات الشمس ) المعبرة عن تغلغل ديانة الشمس فى البيت الحاكم و عقول البشر ، حيث عبر ملوك أو زعماء الأسرة ( صفر ) عن إنتصاراتهم و زحفهم نحو الشمال فصوروا أنفسهم فى هيئات حيوانية شمسية قوية ( مثل الأسد و الثور ) التى تقوم برفع و حماية الشمس و الدفاع عنها فتهاجم أعدائها الذين صوروا فى هيئة حيوانات أضعف ( مثل الغزال و الوعل و الأيل ) . و قد تم تجسيد تلك الفكرة على سطوح الصلايات و مقابض السكاكين و المقامع فى إطار الملكية الناشئة التى عبرت عن نفسها فى سياق حيوانات الشمس التى تنتصر على أعداء الشمس ، فأصبح الزعيم يمثل فى هيئة الأسد أو الثور الذى يبطش بأعدائه و يحافظ على النظام الكونى الشمسي و هنا يمكن التأكيد على أمر هام : أن الديانة الشمسية خلال عصر نقادة الثالثة – الأسرة صفر لم يقتصر دورها على وظيفتها الكونية و الجنزية كما تم شرحه سابقا ، بل أصبحت ترتبط برباط وثيق بالملكية المصرية و لذلك ستلعب هذه العقيدة دورا هاما فى الأيدولوجية الملكية طوال التاريخ المصري القديم
و مما لا شك فيه أن أهم معبود فى عصر الأسرة صفر هو المعبود الصقري ( حورس ) إله هيراكونبوليس ( نخن ) و هى المدينة التى خرج منها معظم ملوك و زعماء الأسرة صفر لتوحيد البلاد رافعين معهم شأن معبودهم حتى جعلوه فى مرتبة الإله الرسمي للدولة فى نهايات عصر الأسرة صفر و بدايات عصر الأسرة الأولى و أصبح الملك ممثلا لحورس السماء على الأرض منذ تلك الفترة و حتى نهاية التاريخ المصري القديم و ينبغى لنا هنا أن نؤكد على حقيقة هامة و هى : أن العبادة الصقرية إرتبطت بالعبادة الشمسية خلال عصر الأسرة الأولى فأصبح الملك ممثلا لمعبود الشمس فى هيئة الصقر و لا سيما بعد أن أصبح الصقر أولى الهيئات المعبرة عن الملك الحاكم و معبود الشمس ( رع ) ، و هو ما تم تصويره بشكل واضح على المشط العاجى للملك ( جت ) ثالث ملوك الأسرة الأولى فظهرت لأول مرة مركب الشمس التى يعلوها الصقر و يقوم بحملها جناح كبير الهيئة ثم يظهر فى الجزء السفلى للمنظر السرخ الملكى للملك (جت ) و يعلو السرخ الصقر المعبر عن الملك الحاكم و لذلك فهنا نجد أمامنا ربط دينى و سياسي قوى بين الصقر المعبر عن الملكية و الصقر المعبر عن معبود الشمس ( انظر الخطوط العامة لعصور ما قبل التاريخ لدكتور على رضوان )
و خلال بدايات الأسرة الثالثة يمكن القول أن الصلة بين الملكية و الديانة الشمسية زادت عن ذى قبل فظهر منذ عصر الملك ( زوسر ) لقب ( رع نوب ) بمعنى رع الذهبى و هو اللقب الذى يربط الملك مباشرة بمعبود الشمس أو بمعنى آخر أن جسد الملك هو جسد رع أى من مادة الذهب التى لا تفنى فيخلد إلى الأبد و ينبغى أن نشير هنا إلى مقال ( أرنولد ) عن الديانة الشمسية ، حيث يرى أنه لا وجود لعبادة شمسية طوال عصر الأسرة الثالثة و بالتحديد فى مجموعة زوسر و لكن لا يتفق الدارس مع تلك النتيجة للأسباب التالية :
1 – مقصورة تورين الشمسية التى ظهر فيها أعضاء التاسوع الشمسي لأول مرة و هى ترجع لعصر الملك ( زوسر )
2 – ظهور لقب ( رع نوب ) على تمثال الملك ( زوسر ) الذى كان فى بيت السرداب الواقع شمال شرق الهرم المدرج مما يعنى وجود طقوس شمسية محتملة فى مجموعة ( زوسر )
3 – إكتشاف إناء من الألباستر ( معروض فى المتحف المصري بجوار صلاية نعرمر ) فى أسفل الهرم المدرج للملك ( زوسر ) يرى البعض أنه برجع لعصر الأسرة الأولى مصور عليه جوسق ملكى و يتم الصعود نحوه من خلال مجموعة سلالم و يقوم برفع المنصة بأكملها المعبود ( حح ) الذى يجسد اللانهائية الزمانية أو ما يعرف إصطلاحا ( ملايين السنين ) و ينبغى هنا ان نشير الى شكل الجوسق و السلالم المؤدية اليه تتشابه مع العلامة التصويرية المعبرة عن التل الأزلى مما يعنى أن تتويج الملك على منصة المجموعة الجنزية لزوسر يشابهه بمعبود الشمس الذى ظهر لأول مرة على التل الأزلى ، فمعنى التتويج هنا يرتبط بالديانة الشمسية و هو ما أكد عليه عالم المصريات القدير ( فستندورف ) الذى أثبت ذلك من خلال بعض الفقرات من متون الأهرام
4 – إن محور المقبرة الجنوبية فى مجموعة زوسر يتجه من الشرق الى الغرب مما يعد مظهر مؤكد من مظاهر الديانة الشمسية فربما الملك هنا يتحد بمسار الكوكب الشمسي ؟
يتبين لنا مما سبق أن الديانة الشمسية أخذت تتطور منذ العصر العتيق و حتى بدايات الدولة القديمة ، بل أن البعض من علماء المصريات يرى أن لقب ( رع نوب ) الذى ظهر فى عصر الملك ( زوسر ) قد تبلور فى تلك الهيئة بفضل إرهاصات أولى ترجع لعصر الأسرة الأولى و بالتحديد فى عصر الملك ( دن ) رابع ملوك الأسرة الأولى حيث ظهر على آثاره و لأول مرة لقب ( رن نوب ) بمعنى الإسم الذهبى مما يحتمل وجود إسم ذهبى للملك يشابهه بالإسم الذهبى لرع و من خلال هذا اللقب تبلورلقب ( رع نوب ) مع بدايات الأسرة الثالثة