بسم الله الرحمن الرحيم
المتغيرات الثقافية و الدلالات الحضارية لعصر اللامركزية الثالث
لا تهدف هذه الدراسة لتحليل و عرض الأحداث
التاريخية التي وقعت في مصر خلال عصر اللامركزية الثالث بشكل تفصيلي و إنما تسعى
لإلقاء الضوء على أهم المتغيرات الثقافية و الدلالات الحضارية المستجدة على ذلك
العصر فالدارس هنا يسلط بؤرة الضوء على " المتغير " و " الدلالة
" و ذلك من خلال " مجمل الأحداث التاريخية " . و لا يفوتني هنا أن
أهدي هذا المقال للأخ القدير و الصديق العزيز الأستاذ ( ماجد محجوب ) لتفوقه
العلمي و عزيمته الفولاذية و لشغفه بمعرفة كل جديد في مجال علم المصريات . تميزت
نهاية الدولة الحديثة بحدوث تغيرات تاريخية ذات طبيعة سياسية و دينية هامة ، حيث
تمكن كبير كهنة آمون ( حريحور ) من تسجيل ألقاب ملكية لنفسه على جدران معبد (
خونسو ) و صالة الأعمدة الكبرى بالكرنك و بدأ بتأريخ سياسي جديد لعهده تحت مسمى أو
صياغة : زمن أو عهد ( الوحم مسوت ) ، بمعنى : إعادة أو تكرار الميلاد . و جدير
بالذكر أن هذا المصطلح كان قد تم إستخدامه من قبل في عهد الملكين : أمنمحات الأول
و سيتي الأول و يكشف هذا المفهوم و بشكل ضمني عن الملامح التالية :
1 - بداية عهد جديد ، فكلا الملكين قاما
بتأسيس فترة تاريخية زمنية جديدة و كلاهما إعتبر نفسه مؤسس لعهد جديد .
2 – يشير هذا المفهوم إلى وجود : " زمن
فوضوي يتسم بالأزمات و الكوارث " يسبق عهد البداية الجديدة ، فذلك الزمن
الفوضي يمثل أحداث من المفترض أنها وقعت في : " ماضي قريب " غير مرضي
عنه و ينبغي تجاوزه أو تشويه ملامحه لأجل إبراز " زمن حاضر " يتميز
ببداية جديدة طيبة و إيجابية .
3 – بناءا على هذه التسمية و ما تحملها من
معطيات أيدولوجية ثقافية قام الملك سيتي الأول بتوجيه الطعن و القدح لزمن العمارنة
و ما وقع فيه من أحداث سلبية وفقا للأيدولوجيا السياسية لعصر الرعامسة ( هنا يثور
تساؤلات حضارية هامة : من المسئول عن إبراز هذا الطعن الموجه ضد العمارنة في عصر
الملك سيتي ؟ هل هو الملك الحاكم ؟ أم البطانة الملكية ؟ أم الخطاب الديني المصري
القديم ؟ من يتحكم في حركة التاريخ ؟ و ما مدى تأثير كل الأطراف المشاركة في
المشهد السياسي آنذاك في إبراز تلك الصورة ؟ ) .
4 – إن مفهوم إعادة أو تكرار الميلاد يعكس
إعادة الميلاد أو وجود ولادة جديدة لآلهة مصر و إعادة هذه الآلهة للوجود مرة أخرى
بعد طمسها في زمن العمارنة ، فصور و مناظر و تماثيل الآلهة وفقا لمعطيات الثقافة
الدينية المصرية تعتبر : " مولودة " و ليست مصنوعة لأنها لا تعبر عن
مواد جامدة و غير حية ، و إنما هي في حد ذاتها أجساد حية ، فتحطيم و تدمير و تجاهل
كينونة هذه المعبودات في زمن العمارنة يعني : إبطال فعاليتها و من هنا تبرز أهمية
مصطلح ( الوحم مسوت ) في عصر سيتي الأول الذي أعاد ميلادها من جديد و ذلك من خلال
برنامج معماري و ديني جديد يرنو لبداية جديدة .
5 – مما لاشك فيه أن هذا الوصف يبرز مفهوم
ديني يرتبط بالخلق و يتمثل في أن كل ولادة جديدة لآلهة مصر تكشف عن عودة لزمن أول
، زمن الأصول الأولى و عهد الخليقة الأول و هو العصر الذي عاشت فيه الآلهة الأوائل
على الأرض و هو الزمن الذهبي الأول الذي كان فيه كل شيء يسير بنظام ، فالملكية هنا
تسعى لإستعادة ذلك الزمن و الذي يعرف من جانب علماء أنثروبولوجيا الماضي الحضاري
" بالماضي الأول البعيد " و الذي يظهر كزمن متفوق على " الماضي
القريب " و الذي يظهر كعهد سلبي و يتسم بالإنهيار التام .
يتضح لنا من تحليل هذا المفهوم أن - الوحم
المسوت - كان خطوة ثقافية ثورية ذات طابع سياسي أيدولوجي تكشف عن تنصل حريحور من
عصر الرعامسة و سياسته و بداية إعلان عهد ديني و سياسي جديد بل و التأريخ لسنوات
حكم جديدة و عدم الإعتراف بسلطة الملكية القائمة في العاصمة الشمالية ( بر- رعمسو
) و ظهور إنقسام السلطة و اللامركزية في الحكم و هي السياسة الإستراتيجية التي
ستميز معظم فترات عصر الإنتقال ( اللامركزية ) الثالث بداية من عصر الأسرة 21 و
حتى بداية عصر الأسرة 25 ؟ ( علامة الإستفهام هنا تشير إلى أنه لا يزال هناك جدل علمي
أكاديمي و عدم إتفاق واضح بين الباحثين حول التحديد الزمني القاطع لنهاية عصر
اللامركزية الثالث ) . فحريحور هنا لا يلزم نفسه بما تم من واجبات دينية أو إلتزامات
سياسية في عصر الرعامسة و يضع بناء سياسي و زمني خاص و مستقل بذاته كما يسعى من
جانب آخر نحو إحتكار أهم المناصب و لذلك فقد منح نفسه ألقاب : الملك ( أعلى سلطة
في البلاد ) و الوزير ( السلطة التنفيذية ) و القائد الأعلى للجيش ( السلطة
العسكرية ) و كاهن آمون الأول ( السلطة الدينية الأقوى في مصر آنذاك ) و لاشك أن
وضع جميع هذه المناصب في قبضة واحدة هو أمر يلفت الإنتباه لأنه لا ينتمي للأمور
الإعتيادية ، فالمتعارف عليه : أن معظم هذه المناصب تنفصل عن السلطة الملكية (
نستثني هنا فقط منصب القائد الأعلى للجيش و الذي كان حكرا على ولي العهد خلال عصر
الرعامسة ) . و من جانب آخر إتسمت إجراءات حريحور في هذا الصدد بأمر هام و هو :
أنها خلت تماما من أي محاولة لتدعيمها
بالإتجاه نحو " الأسفل " فوفقا لمعطيات علم الإجتماع أن حريحور لم يسعى
لتقوية الإجراءات السياسية و الدينية التي إتخذها بالتوجه نحو عامة الشعب ( أي
التوجه نحو الأسفل ) لكي يكتسب ولائهم ( علينا هنا أن نتذكر المحتوى الأدبي الملكي
لنصوص الدولة الوسطى و التي نادت بأن الملك هو الراعي الطيب الذي يسهر طوال الليل
من أجل حماية القطيع " = عامة البشر " و أنه يحرص تمام الحرص على تطبيق
العدالة لإرضائهم و لكي ينال الحظوة لدى المعبودات ) ، بل إتجه نحو " الأعلى
" ، أي توجه ناحية المعبود آمون و لجأ لظاهرة الوحي الإلهي الآموني الذي أصدر
قرارا لصالحه ، فالإله في مصر يتدخل في مجريات التاريخ و السياسة منذ عصر الدولة
الحديثة على أقل تقدير ( و هناك من يرى مفهوم تدخل الإله في مجريات التاريخ منذ
عصور ما قبل التاريخ ) و لهذا السبب نقول بأن شخصية " الإله الكاريزماتي
" أصبحت هي الأقوى على الإطلاق بمعنى أن الإله هنا يظهر و كأنه يحكم فعليا و
لذلك فلا يمكن رد أو رفض أحكامه التي تصدر من خلال وحي ، فحريحور طبقا لذلك
المفهوم يسعى لإقامة " دولة الإله " ( هل كانت إجراءات حريحور "
سياسة عملية طارئة " أملتها الحاجة و ظروف العصر و ما نتج عنه من وجود أزمات
في نهاية عصر الدولة الحديثة ؟ ) . و ما يهمنا في هذا الطرح هو التأكيد على أن ذلك
البناء السياسي الجديد هو الذي إنتهجته مصر لنفسها كنظام حكم خلال معظم فترات عصر
اللامركزية الثالث .
و من
جانب آخر نجد أن هذا البناء السياسي المستقل يعمل على إمكانية تحويل العلاقات بين
مقاطعات و أقاليم و مدن مصر من سياسة داخلية إلى سياسة خارجية و ذلك لا يعني
بالضرورة أن العلاقات بين منطقة و أخرى لابد و أن تكون عدائية ، بل النقيض هو
الصحيح . فما حدث خلال عصر الأسرة 21 لم يكن تمردا قامت به منطقة ضد الأخرى ، بل
هو " إتفاق بابوي " بين حريحور في طيبة و سمندس في تانيس – و هنا ندين
بالفضل لعالم المصريات ديفيد أوكونور الذي إستخدم هذا التعبير " إتفاق بابوي
" و ذلك في دراسته الرائعة عن الأحداث السياسية لعصر الأسرة 21 – و لذا فإن
التجربة التاريخية العظيمة التي تعلمتها مصر خلال عصر الدولة الحديثة تكمن فيما
يلي :
1 – أن حدود العالم المنظم الذي خلقه رب
الشمس رع لا تنتهي عند حدود مصر
2 – أن رب الشمس خلق مناطق و بلاد أجنبية
أخرى و يمكن التكيف معها ثقافيا و لو بشكل جزئي أو يمكن التأثير عليها لصالح مصر .
3 – في ظل هذا السياق الحضاري الجديد لم تكن
الحرب وحدها هي الطريقة الناجزة الوحيدة الفعالة في ممارسة السياسة الخارجية مع تلك
البلاد فتراوحت العلاقات مع " العالم الخارجي " ما بين السلم و ما بين
الحرب . و لهذا السبب ندرك كيف أجادت طيبة و تانيس في العام 19 من حكم الملك –
رمسيس 11 – في ممارسة سياسة سلمية بينهما و دون الدخول في صراع عسكري مسلح ، فلا
يسعى أي طرف منهما لفرض هيمنته على الطرف الآخر – مثلما حدث على سبيل المثال في
عصر اللامركزية الأول و الصراع الذي قام بين طيبة و إهناسيا – فلا تعجب إذن من
رؤية تحول العلاقات السياسية بينهما من داخلية إلى خارجية و هو ما يعني من وجهة
نظر الأنثروبولوجيا الثقافية :
أن ثقافة المجتمع هي عبارة عن " خبرة
تراكمية " فالمعرفة هنا يتم تخزينها و تمريرها من جيل إلى آخر و في عملية
مرورها بين الأجيال لا تبقى ثابتة في عناصرها بل يضاف إليها عناصر و معلومات أخرى
جديدة . فالثقافة هنا تعمل على إيجاد حلول معينة للمشاكل التي تواجهها فتنقلها إلى
الأجيال اللاحقة التي تقوم بتعلمها و حفظها بل و يضيفون عليها حلولا أخرى مناسبة
لعصرهم إضافة إلى ما تسلموه من الأجيال السابقة .
فلا غرابة إذن من وجود هذا الشكل السياسي
الجديد خلال عصر الأسرة 21 و هو : أن يحكم الملك في الشمال متمركزا تانيس و أن
يحكم كبير كهنة آمون في الجنوب متمركزا في طيبة و أن يتزوج كبير كهنة آمون من إبنة
الملك التانيسي ، و هكذا تتكون عائلة واحدة ، فإذا خلا الفرع التانيسي من خط
الذكور لحكم البلاد يتقدم أحد الذكور من الفرع الطيبي ليحل محله و إذا خلا خط
الذكور من الفرع الطيبي لكي يتولى زعامة كهنوت آمون يتقدم أحد الذكور من الفرع
التانيسي لتولى المهمة .
إن
الإنقسام السياسي الذي حدث في نهاية عصر الدولة الحديثة كان تمهيد حضاري لحركة
تاريخية أخرى لاحقة ألا وهي : تزايد تعدد السلطات السياسية و إتساع مفهوم
اللامركزية و بروز ذلك الحدث في الذكرى المستقبلية للثقافية المصرية الرسمية بوصفه
حدثا إيجابيا و ليس سلبيا و هنا يمكن لنا أن نعرض الملامح التاريخية و الحضارية
التالية :
1 – لم تكشف الكتابات الأدبية الرسمية لعصر
اللامركزية الثالث – هنا يمكن تقسيم ذلك العهد إلى فترتين : الأولى و هي عصر
الأسرة 21 و التي تمتد من 1080 ق.م و حتى 820 ق.م و الثانية و هي زمن الأسرات 22 و
23 و 24 ) - عن مفاهيم الفوضى و الأزمات و الكوارث التي حلت بمصر بظهور اللامركزية
في الحكم و هو ما يميز ذلك العصر عن العصرين اللامركزيين السابقين الأول و الثاني
و حتى و إن وجدت بعض الكتابات الأدبية التي تناولت تلك الأفكار ، فهي قد ظهرت و
بشكل جزئي و لم يكن لها صدى مؤثر في المصادر الرسمية في النصف الثاني من عصر
اللامركزية الثالث ( من عام 820 ق.م و حتى عام 650 ق.م ) .
2 – يتميز النصف الثاني من عصر اللامركزية
الثالث بتعدد السلطات المحلية في مصر و بقاء ذلك التعدد في الذاكرة الثقافية الرسمية
لمصر لدرجة أن هيرودوت وصف هذه الفترة بأنها حكم الإثنى عشر حاكما فكتب : "
فبعد تحرير مصر من حكومة و دولة كهنة الإله هيفاسيوس ( سيتي ) قام المصريون – حيث
لا يمكنهم العيش دون ملك - بتقسيم مصر إلى 12 مقاطعة و نصبوا عليهم 12 ملكا و قد
أصبح هؤلاء الملوك أقرباء بالمصاهرة كما وقعوا بينهم على عقد بعدم محاولة إسقاط
أحدهم للآخر أو إغتصاب أراضيه " .
3 – لا يعكس نص هيرودوت بالضرورة صحة تاريخية
كاملة لحدث تاريخي فعلي بل يكشف عن ( نواة حقيقية ) لعصر اللامركزية الثالث و ذكرى
ثقافية رسمية صادقة لهذه ( النواة ) تتمثل في وجود إتفاق سياسي إلى حد كبير بين
زعماء ذلك العصر حول طبيعة الحكم آنذاك و الرضاء بمفهوم اللامركزية بل و إظهار تلك
الفترة في المصادر الرسمية كزمن إقطاعي و بطولي في ذاكرة المصريين في العصور
اللاحقة و هو ما كشف عنه نص هيرودوت .
هناك مجموعة من الأسباب التي دفعت بظهور
اللامركزية خلال ذلك العصر بل ربما يمكن رد جذورها إلى نهاية عصر الدولة الحديثة و
هي :
1 – عدم تمكن سلطة الرعامسة في أواخر عهدها
من فرض سياسة فرض الرقابة الإقتصادية على جميع أقاليم مصر ، فلا وجود لسلطة
تنفيذية قادرة على جلب الضرائب من جميع أنحاء البلاد نحو القصر الملكي في الشمال
لأسباب تاريخية لعل من أبرزها ضعف الشخصية الكارزماتية الملكية فضلا عن تنامي
طموحات كهنة آمون سياسيا و دينيا في ذلك العهد .
2 – إنهيار الأجهزة الإدارية للدولة و
المعنية بإستلام الضرائب أدى إلى وجود عجز إقتصادي في مخازن القصر الملكي مما نتج
عنه عدم تمكن هذه المخازن من أن تمون مناطق أخرى و هو ما كشفت عنه شواهد و نصوص
تلك الفترة التي تحدثت عن أزمات و مجاعات و إضرابات عمال و محاكمات فضلا عن إرتشاء
الموظفين المعنيين بهذه العملية و عجز السلطة الملكية عن مواجهة كل ذلك
3 -
لم يكن هناك حل عملي سوى : ظهور تجربة تاريخية سياسية ثقافية جديدة تحل محل التجربة
القديمة و التي بدت هنا و كأنها شكل سلبي لممارسة الحكم ، فهنا لم يعد مفهوم
السلطة المركزية صالح للتطبيق و لم يكن هناك حل سوى وضع السلطات في قبضات ( أيدي )
سياسية متعددة ، و كلما إمتدت قدرة كل قبضة على التحكم في مجريات الأمور كلما
إمتدت سلطتها و بمعنى آخر أن هذه القبضة تتوقف عن فاعليتها و ممارستها للحكم في
منطقة نفوذ مختلفة تتحكم فيها قبضة أخرى مما يؤدي عمليا إلى تقسيم البلاد إلى
مناطق و مقاطعات و مراكز مستقلة سياسيا عن بعضها البعض .
4 – من وجهة النظر الأنثروبولوجية السياسية :
أن العلاقات بين حكام و ملوك و زعماء ذلك العهد ستتحول من علاقات سياسية داخلية
إلى علاقات سياسية خارجية طالما كان هناك تأريخ مستقل لأحداث فترة كل حاكم داخل
منطقة نفوذه و طالما كان القانون في كل مقاطعة يختلف إلى حد كبير عن قانون
المقاطعة الأخرى و هو ما كشفت عنه بردية موسكو التي سيتناولها الدارس في الفقرة
القادمة مباشرة .
تنتمي بردية موسكو لطراز الأدب الشعبي لعصر
اللامركزية الثالث فهي تحكي عن موظف كان ينتمي لمكانة إجتماعية مرموقة و كان يمتلك
سفينة و عربة و خدما و كان مقرب لأحد زعماء أو ملوك عصر اللامركزية الثالث إلا أن
الملك قام بعزله من منصبه و تجريده من كل ممتلكاته فذهب يتجول في البلاد من مدينة
إلى أخرى لكي يبدأ حياة جديدة و يسعى لتشكيل علاقات إجتماعية جديدة ، إلا أن كل
ذلك كان ينتهي حتما بالفشل و قبل أن نقرأ ما ورد في هذه البردية نشير إلى أمر هام
:
يجب توخي الدقة و الحذر عند التعامل مع هذه
النوعية من النصوص فلا ينبغي أن نصدر حكم " بتعميم ثقافي " لحالة
المجتمع المصري في أنحاء البلاد نظرا لأنها رؤية فردية و لا نملك نصوص أخرى مشابهة
لكي نصدر مثل هذا التعميم على حالة البلاد آنذاك و لنتذكر أنه حتى الآن هو نص شعبي
" فريد من نوعه " في عصر اللامركزية الثالث . و لكن و رغم ذلك فلا يجب
علينا أيضا أن نتجاهل ما ورد في هذه البردية فقد ورد فيها :
" لقد كنت دوما في مدينة غير مدينتي و
في مكان لا أعرفه كنت أجتاز حدود كل مدينة بصعوبة بالغة و كنت دائما تحت قانون
أجنبي و قد فقدت جميع رفاقي القدامى و حتى الأصدقاء الجدد الذين حاولت الحصول
عليهم لم يبقوا معي إلا لمدة وجيزة و إبتعدوا عني بعد ذلك و قد حدث كل ذلك بسبب
حالتي البائسة ، فالجميع هرب مني بسبب فقري . لقد ظلمني حاكم هذه المدينة التي كنت
فيها و كانت ضرائبه شديدة و كان يقوم بسجن من لا يدفع ضرائبه و كان الناس يقولون
عنه أنه رجل ظالم فأقسم بالإله الواحد الأحد بأنه كان يسلب الناس " . ثم
يتابع و يقول :
" لقد جاءني الشقاء و لم يسأل أحد عن
حالي و أنا هنا أتساءل : إذا تركت أشلاء الإنسان بمفردها عند حافة الصحراء ، فمن
يقوم بدفنها ؟ لم يكن هناك أحد يهمه حالي . أنظر ليس هناك من يهمه حالي لا من
الأموات و لا من الأحياء ، فما معنى آلامي في الزمن القادم ؟ " .
هناك مجموعة من النتائج النسبية الهامة التي
يمكن الكشف عنها من خلال قراءة و تحليل ما سبق و هي :
1 – شعور الرجل بالغربة بمجرد خروجه من
مدينته بل و أصبحت هناك رقابة حدودية طوبوغرافية و سياسية خاصة لكل مدينة و ذات
طبيعة صارمة حتى أنه يقول : " و كنت أجتاز حدود كل مدينة بصعوبة بالغة "
و هنا ينسجم ما ورد هنا و يتوافق مع آثار عصر اللامركزية الثالث بعد الكشف عن
بقايا أسوار من الطوب اللبن في معظم مدن مصر و تنتمي زمنيا لذلك العصر فلكل مدينة
أسوار خاصة . ( و هنا نسعى لإثارة تساؤل هام : ما هو السبب وراء ذلك الإجراء ؟ ) و
لعلنا نتذكر من قصة سنوهي لتي ترجع لعصر الدولة الوسطى أنه لم يشعر بالغربة إلا
عندما إجتاز حدود مصر بالكامل ، فضلا عن كونه أنه لم يشعر بأي صعوبة عند تنقله من
مكان لآخر داخل البلاد و هنا يكمن الفارق بين النصين .
2 – لم يعد هناك قانون مشترك في مصر خلال ذلك
العصر فقد كان كل حاكم يسيطر على مدينته وفقا لقانونه الخاص . و أن القانون الخاص
لبعض المدن لم يحمي الضعفاء من الظلم .
3 – لا يزال صدى التوحيد القادم من زمن
العمارنة مسموعا في هذا النص فهو يقول : " أقسم بالإله آتوم الواحد الأحد
" . و هو ما يعني : أن التأثير الثقافي لأي عصر سابق لا يختفي بشكل كامل على
الإطلاق حتى و لو سعت السلطة السياسية فيما بعد لطمس الهوية الثقافية لذلك الماضي
الغير مرضي عنه فالثقافة هنا لا تتلاشى بصورة تامة .
4 – يسعى صاحب النص – و بمعطيات علم الإجتماع
- لتصوير حالة من " الإنحلال الكامل في النسيج الإجتماعي " فآلامه التي
يعاني منها ليس هناك من يهمه أن يتفقدها و من الجائز جدا أن يفقد الإنسان أعلى
المناصب دون أن يهتم بما حدث له أي شخص ( و هنا نعقب على ذلك و نقول : أين نحن من
النصوص الأدبية لعصر الدولة الوسطى التي نادت بأن معنى الماعت هو " أن يعمل
الإنسان من أجل الآخرين ، فإذا عمل الإنسان من أجل الآخر سيتذكره الناس للأبد و لن
يختفي إسمه من الأرض " . شتان الفارق بين ما ورد في النصين إلا أنه من جانب
آخر يتشابه ما ورد في هذا السياق مع نصوص عصر اللامركزية الأول التي كشفت عن وجود
أزمات و كوارث إجتماعية ) .
5 – يكشف النص عن إستمرارية المعتقد و
الموروث الديني المصري القديم و الذي يتمثل في : تصور وجود تأثير من الأموات على
عالم الأحياء و أن الأموات يتدخلون أحيانا إما لصالح أو ضد الأحياء مما يعني أنهم
يهتمون برعاية مصالح الناس الذين لا يزالون أحياء على الأرض أحيانا و لذا فهو
" أي صاحب النص " يظن أن حالته لم تعد تهم الأموات التي كان يلجأ إليها
المصري القديم في وقت الشدة و الأزمات و هو وصف أدبي بلاغي يعكس مدى الأزمة التي
يمر بها بطل القصة .
يتضح لنا من خلال هذا العرض أن بردية موسكو
تنتمي للطراز الأدبي الشعبي المعتاد لوصف الفوضى ( فهل يعكس ما ورد فيها أحداث
تاريخية حقيقية ؟ و ما مدى نسبة المصداقية و نسبة التضليل في محتوى النص ؟ هل يمكن
أن نرفض ما ورد فيها ؟ تلك تساؤلات و قضايا نقدية مشروعة و لكن لا مجال لمناقشتها
في السياق الحالي للدراسة ) فنحن هنا نرى عنف و تعسف و مجاعة و جباية ضرائب مجحفة
و تدهور العلاقات بين الناس و عزلة الإنسان و إنحلال التضامن الإجتماعي و إختفاء
مفهوم الذاكرة الحضارية الإجتماعية التي تدفع الإنسان للعمل من أجل الآخرين حتى
يتذكره الناس فضلا عن إضمحلال الأمل في وجود سلطة عليا عادلة تسعى نحو إرضاء الرعية
.
و هكذا نرى أن الأحوال السياسية في مصر في
نهاية عصر الدولة الحديثة و خلال عصر اللامركزية الثالث أدت إلى : تحويل مصر من
دولة مستقلة موحدة إلى عصبة من الدويلات الصغيرة حيث بدأت كل مدينة بتحصين نفسها
عن طريق تشييد القلاع التي يلجأ إليها المواطنون خلال أوقات الخطر ، فلم تعد هناك
سلطة مركزية وحيدة قادرة على حماية كل مدن و أقاليم مصر ( الإعتراض هنا يكمن في
هذه التساؤلات : هل بناء هذه القلاع أمر مستحدث خلال عصر اللامركزية الثالث ؟ هل
لم تكن هناك أسوار قلاع لمدن مصرية خلال عصر الدولة الحديثة ؟ و ماذا عن نص الملك
أمنتحب الثاني الذي ورد فيه تعليق الأسرى القتلى من أعداء مصر على أسوار مدينة
طيبة ؟ بل يمكن القول بأن فكرة بناء الأسوار حول المدن ظهرت منذ النصف الثاني لعصر
نقادة الثانية أي في المراحل الأخيرة لعصور ما قبل الأسرات ... من جانب آخر هناك
بالفعل وجود إمكانية لتصديق مفهوم إنعدام الأمن خلال ذلك العصر بسبب ما هو متاح
لدينا من شواهد أثرية و نصية تتمثل في شكوى عمال دير المدينة في نهاية الدولة
الحديثة بأن بدو الصحراء الغربية من " المشاشا " كانوا يغيرون على
قريتهم من آن لآخر فطلبوا تدخل السلطات لحل مشكلتهم ) .
ندرك مما سبق تناوله أن الموقف السياسي خلال
عصر اللامركزية الثالث إتسم بما يلي :
1 -
دمج الوظائف الكهنوتية و العسكرية و المدنية في قبضة واحدة داخل كل مدينة
2 - يمكن لنا أن نستشف إرهاصات تلك الفكرة عن
طريق الإجراء الذي إتخذه الملك ( با سبا خع إم نيوت ) - خلال الأسرة 21 – في تانيس
و المعاصر زمنيا لدولة الإله في طيبة حيث كان هو الآخر كبير كهنة آمون في الشمال و
إستحوذ أيضا على لقبي الوزير و القائد الأعلى للجيش
3 -
أنه رغم وجود " الإتفاق البابوي " الذي أشرنا إليه سابقا بين تانيس في
الشمال و طيبة في الجنوب و رغم وجود محاولات لخلق عائلة واحدة خلال الأسرة 21 من
خلال سياسية الزواج الدبلوماسي بين العائلتين إلى أن ذلك لم يمنع على المستوى
العملي من قيام " دولتين متشابهتين تماما من حيث التنظيم أو البناء السياسي
" .
4 - هيمنة النمط الثقافي السياسي لنموذج
الحكم الذي إبتدعه حريحور بل و تنامي هذا النمط بشكل متسارع خلال الأسرات 22 و 23
و 24 ( لن تطرق هذه الدراسة لقضية مدى تصير الزعماء و الملوك و الحكام من ذوي
الأصل المهجن حيث سبق و أن تناولها الدارس في مقال سابق و مستقل إلا أن ذلك لا
يمنع من إعادة طرح هذه القضية مستقبليا مرة أخرى للمناقشة في ضوء المعطيات و
الشواهد الأثرية الجديدة ) حيث تعدد دويلات المدن و التي إحتكر فيها حكامها جميع
المناصب السابقة فانتحل كل حاكم لنفسه أعلى و أهم الألقاب داخل نطاق نفوذه و تحولت
العلاقات السياسية بينهم من داخلية إلى خارجية مع الوضع في الإعتبار ظهور قانون و
جيش خاص لكل مدينة .
و بدلا من إحتكار السلطات و المناصب الهامة
من جانب الدولة ( السلطة المركزية ) ظهرت أنظمة سياسية و إجتماعية متعددة في مصر
خلال النصف الثاني من عصر اللامركزية الثالث ( و تحديدا خلال الأسرات 22 و 23 و 24
) كما زادت ظاهرة الزواج الدبلوماسي بين هؤلاء الحكام و الزعماء ( يمكن لنا هنا أن
نتخذ من تنامي و زيادة تلك الظاهرة مؤشر ثقافي سياسي واضح على طبيعة العلاقة بين
هؤلاء الحكام بأنها علاقة سياسة خارجية و ليست داخلية ) . إن هذا الشكل السياسي
الجديد يمكن لنا أن نرجح وجوده بسبب عاملين و هما :
1 – العامل الأول : و هو ما سبق و أن طرحناه
و يتمثل في الإجراءات السياسية الجديدة التي إتخذها حريحور ( إذن نتحدث هنا عن
عامل داخلي )
2 – العامل الثاني : أن هذا التقسيم السياسي
للبلاد في شكل دويلات المدن و إحتكار كل حاكم مدينة لأعلى المناصب في مدينته و عمل
الزواج الدبلوماسي بين الحكام و وجود جيش لكل مدينة فضلا عن وجود دستور خاص لكل
منطقة و إحتكار كل حاكم الضرائب لنفسه بل و التعبير عن الرضاء التام عن هذه
الأوضاع و عدم ظهور مفهوم الفوضى في النصوص الرسمية و ظهور ذلك العصر و كأنه زمن
بطولي حتى العصر الذي جاء فيه هيرودوت لمصر يعكس نتيجة هامة و هي : أن تمصير هؤلاء
الملوك و الزعماء و الأمراء من ذوي الأصل المهجن الذي يجمع بين " المشاشا
" و " الليبو " و " السبد " و " التمحو " (
الذين حكموا خلال الأسرات 22 و 23 و 24 ) بشكل تام أو كامل هو أمر يحتاج لإعادة
نظر نظرا لأن هذا النمط الثقافي يناسب أكثر العقلية الخاصة بهؤلاء القوم فلكي
نتوخى الدقة ينبغي هنا أن نتحدث – طبقا لمعطيات الأنثروبولوجيا الثقافية - عن وجود
متغيرات خارجية أثرت جزئيا على النمط العام للثقافة المصرية المحلية أو بمعنى أدق
هناك تأثير ثقافي و حضاري متبادل بين الحضارة المصرية و حضارة الملوك من ذوي الأصل
المهجن ( لعلنا هنا سنطرح قضية مدى و درجة
التمصير لهؤلاء الملوك و الزعماء مرة أخرى للدراسة في الوقت المناسب بإذن الله
وفقا لشواهد مادية و أثرية و لغوية جديدة ) مما يعني أننا هنا نتحدث عن عامل خارجي
.
و قبل أن ننتقل للفقرة اللاحقة من هذا المقال
ينبغي لنا هنا أن نؤكد على طرح علمي هام فيما يتعلق بمفهوم التبادل الحضاري و
التأثير و التأثر ما بين حضارتين . لا يوجد حضارة ناقلة لأخرى . الحضارات كائنات
حية ، لكل منها إستقلالها الذاتي و حياتها الخاصة و شخصيتها المتميزة . لكل منها
جوهرها و بؤرتها و محاورها و قيمها و تصورها للعالم و لذلك فإن علاقتها بالحضارات
المجاورة تحكمه " قوانين إلتقاء الحضارات و منطقه " و الذي تم صياغته في
علم " أنثروبولوجيا الثقافة " . و الواقع أن كل حضارة تتفاعل مع غيرها
من الحضارات المجاورة و تأخذ منها طبقا لإحتياجها الخاص و تتمثل منها ما تريد و
تعيد توظيفه من منظورها و طبقا لإحتياجاتها . لا يوجد نقل حرفي أو تقليد قردي من حضارة
لأخرى . فهذا إفتراض نظري لا وجود له يدل على عقلية الرائي و أهدافه أكثر مما يكشف
الموضوع المرئي و تكوينه . و من هنا يمكن القول أن مفهوم " التأثير و التأثر "
هو أمر واقعي و منطقي و لكن له قوانينه التي تحكمه و لا يأتي بشكل عشوائي و لا
يمكن فهمه على أنه نوع من فرض نمط ثقافي على نمط ثقافي آخر . كما أن ذلك لا يعني
أيضا عدم أصالة الحضارة التي تقتبس ما يناسبها من معطيات حضارية من الثقافات
المجاورة و من جانب آخر لا يمكن تصور وجود حضارة مستكفية بذاتها فلا تقتبس من
غيرها فذلك أيضا إفتراض نظري ليس له أي دليل علمي ، فالحضارات تأخذ و تقتبس من
بعضها البعض ما يناسبها في زمان معين و في مكان محدد .
لقد أفضى إذن ظهور ذلك النظام السياسي الجديد
إلى نتيجة أخرى خلال النصف الثاني لعصر اللامركزية الثالث و هي :
ظهور " المبدأ الأرستقراطي للنسب "
في تعيين الأفراد في الوظائف الهامة بدلا من " مفهوم الكفاءة البيروقراطية
الإجتماعية المصرية " ، فلا شك أن الجماعات البشرية من ذوي الأصل المهجن التي
دخلت البلاد منذ عصر الرعامسة لم تندمج بشكل كامل في معطيات الثقافة المصرية
المحلية فقد كان التعيين في الوظائف الهامة و فقا لمفاهيم القرابة و النسب عنصر
أساسي من عناصر العقلية الثقافية و الحضارية لهذه المجتمعات فقد كانت القرابة
عاملا هاما من عوامل " التشابك الإجتماعي الأفقي " أي إقامة مجموعة من
العلاقات و الشبكات الإجتماعية على خط أفقي واحد بين مختلف الأسر و العائلات التي
تربط مصالحها مع بعضها البعض من خلال تحالفات سياسية مشتركة أو إقامة زواج
دبلوماسي و من هنا أصبح نسب الإنسان و حسبه هما الأساس الثقافي لتحديد المكانة
الإجتماعية لأي فرد خلال عصر اللامركزية الثالث ( التساؤلات هنا تتمثل فيما يلي :
هل المبدأ الأرستقراطي للنسب لم يكن ممارسا قبل عصر اللامركزية الثالث ؟ أم أن
الظاهرة نفسها كانت موجودة و لكن بشكل جزئي ؟ هل نتحدث هنا عن فارق في درجة
الظاهرة من عصر إلى آخر أم فارق في النوعية بمعنى آخر أن الظاهرة في حد ذاتها كانت
إلى حد ما معترف بها في مصر قبل عصر اللامركزية الثالث و لكنها لم تكن قانونا إلا
أن ما حدث بعد ذلك أنها زادت بشكل بارز - الفارق هنا في الدرجة فقط - في ذلك الزمن
؟ ) .
إن النتيجة السياسية المستحدثة أدت إلى ظهور
" نماذج إجتماعية جديدة " مسيطرة على المجتمع المصري خلال ذلك العصر و
ما يؤكد ذلك الطرح العلمي الهام ما يلي :
1 – كشفت نصوص ذلك العصر عن أن الحسب أو
النسب كان يمثل الركيزة الأساسية لشغل أي مناصب كبيرة كما أكدت النصوص على الألقاب
التي يحملها " فلان إبن فلان إبن فلان "
2 – إزدادت ظاهرة وحي الإله الذي يبارك
إنتقال المنصب و وراثته من إبن لإبن آخر فلا يتمكن الإنسان في مصر من شغل مكانة
" إجتماعية مرموقة " خلال ذلك العصر دون الإستناد على " أيدولوجيا
دينية بارزة "
3 – إستمر هذا النظام الإجتماعي الوراثي لمدة
إمتدت زمنيا إلى مئات السنين و ظهر مفهوم " شجرة العائلة " التي تضرب
بجذورها إلى زمن عتيق و تتوارث المناصب من جيل إلى آخر و ذلك برز مفهوم الأنساب
العائلية العريقة على جدران المقابر حيث صار الإنسان ذي المكانة الإجتماعية
المرموقة يفتخر بجذره العائلي الممتد إلى زمن بعيد و كان سبب تدوين ذلك على جدران
المقبرة هو " الحاجة الأيدولوجية لتثبيت النسب و الحسب للأبد "
و من هنا يمكن القول بأن الزمن الذي كانت فيه
المملكة المصرية ذات حكم مركزي قوي ، كانت السلطة الملكية تقوم أحيانا و من خلال
لجنة نظام مركزي تعليمي بإختيار و إنتقاء " و لو بشكل جزئي أو هامشي " الموظفين
وفقا للكفاءة المهنية و القدرات التعلمية و المهارات المكتسبة و التي تختلف من فرد
لآخر و قد إستمر هذا الوضع حتى الزمن الذي زار فيه هيرودوت ( عصر الأسرة 27 ) أرض
مصر لدرجة أنه يتحدث و يقول ما يلي :
" فقد كان للمصريين سبعة طوائف مختلفة ،
الأولى هي طائفة الكهنة و الثانية الطائفة العسكرية و بعدها تأتي طوائف رعاة البقر
و رعاة الخنازير و التجار الصغار و المترجمين و الملاحين " .
يلاحظ هنا فيما ورد لدى هيرودوت أمورا هامة و
هي :
1 – ذكر طائفة الكهنة كأولى و أهم طوائف
المجتمع المصري في عصر اللامركزية الثالث بل و في العصر المتأخر بأكمله حيث سيطرت
هذه الطائفة دينيا و سياسيا على مجريات التاريخ في ذلك الزمن في ظل إنهيار مفهوم
الملكية المركزية ذات الصبغة المقدسة .
2 – بداية وجود إنفصال وظيفي واضح بين
الطائفة الكهنوتية و الطائفة العسكرية التي تلتها مباشرة في العصر المتأخر (
تحديدا خلال عصر الأسرة 27 ) و هو ما لم يكن كذلك خلال عصر اللامركزية الثالث فقد
فضل الحاكم الفارسي المحتل ( في عصر الأسرة 27 ) أن يتعامل مع النخب الكهنوتية
لإحكام قبضته على البلاد ( أنظر نص السيرة الذاتية لكاهن الإلهة نيت " وجا
حور رس نيت " الذي عاصر بداية الغزو الفارسي و مدى تعاونه مع المحتل الأجنبي )
و أن يتجاهل النخب العسكرية التي ظهرت في الأسرة 26 و إنفصلت عن النخب الكهنوتية
لأسباب و ظروف تاريخية قد نتناولها في دراسة تفصيلية مستقبلية أخرى بإذن الله .
3 – لم يذكر هيرودوت في هذا النص طوائف
إجتماعية أخرى من المجتمع المصري القديم مثل طائفة " الفلاحين " و طائفة
" النحاتين أو الفنانين " فأين كان موقعهم من الإعراب ؟ - للرد على هذا
التساؤل نحتاج هنا لنصوص إدارية و آثار أخرى للكشف عن حقيقة تلك الحالات
الإجتماعية و هو ما يخرج عن نطاق إهتمامنا بالنسبة لموضوع و أهداف هذه الدراسة
و هنا نجد أنفسنا أمام " بناء إجتماعي
جديد " يرتكز على مفهوم " التبعية الإجتماعية " القائمة على مفهوم
" الحسب و النسب " و قد حل هذا البناء خلال عصر اللامركزية الثالث محل
البناء الإجتماعي القديم و الذي إنهار تماما في نهاية عصر الدولة الحديثة .
و
لعلنا نراجع في هذا السياق و في عجالة سريعة ما حدث خلال نهاية عصر الدولة القديمة
( نهدف هنا إلى عمل مقارنة بين ظرفين تاريخيين في عصرين مختلفين و هما زمن
اللامركزية الأول و زمن اللامركزية الثالث و المقارنة هنا تهدف للكشف عن المتغيرات
الثقافية بين العصرين ) عندما نشأ نظام جديد تمثل في مفهوم " ولي الأمر
المحلي – و هم حكام الأقاليم و كبار الأفراد " القادر على صد الخطر و حماية
المجتمع من الكوارث و الأزمات و توفير الرخاء للجميع مما أفضى لنشأة و تكون أيدولوجية " الولاء المطلق لولي الأمر
المحلي – حاكم الإقليم الذي حل محل الملك " الذي يتعلق الجميع به و يرتبط
مصيرهم به – تناول الدارس في أكثر من مقال سابق مفهوم ولي الأمر المحلي خلال عصر
اللامركزية الأول – فضلا عن إبراز صورة " التدين و الورع و التقوى الشخصية
" للإنسان في مصر تجاه الإله المحلي للإقليم . أما الصورة التي صارت عليها
الأمور في عصر اللامركزية الثالث فقد تمثلت في هاتين النتيجتين :
1 - تبعية الإنتساب لسلسلة من الآباء من ذوي أصحاب
المناصب العالية في الزمن الماضي .
2 – مدى و أهمية الورع الشخصي الذي يجمع بين
الإنسان في مصر و بين آلهة المدن المحلية التي أصبحت مسئولة عن تحديد "
المكانة الإجتماعية " للفرد بل و صارت تحدد نوعية مسكنه و طريقة حياته من جهة
أخرى .
و بعكس ما حدث خلال عصري اللامركزية الأول و
الثاني نجد هنا و بصورة ملفتة للنظر عدم وجود أصوات تشكوا من إنهيار الوحدة
السياسية لمصر و مانتج عنه من تغيرات إجتماعية و ذلك على الأقل في النصوص و
المصادر الرسمية فلا وجود لكلمة الفوضى و يظهر للعيان أن الوضع السياسي الجديد و
المتغيرات الإجتماعية في ذلك الزمن لا تدعو للنقد أو القدح أو الطعن . و من ناحية
أخرى سعت نصوص العصر في إظهار إيجابيات و محاسن هذا النظام السياسي الجديد بشكل
يقتنع به الإنسان في مصر فلا يتمرد و بحيث تظهر الوحدة السياسية للبلاد كخسارة
للجميع .
إن ظاهرة التدين الشخصي و إظهار الورع و
التقديس للمعبود المحلي زادت إلى حد كبير خلال زمن اللامركزية الثالث ، فقد كان
الإله الشخصي في ذلك العصر هو إله المدينة نفسه ( تماما مثلما حدث في عصر
اللامركزية الأول ) كما تحول إله المدينة إلى حاكم محلي لمدينته و أصبح له مجال
لممارسة السلطة السياسية من خلال أعياده المحلية و ممارسة ظاهرة الوحي الإلهي
" و هي الظاهرة التي تنامت في نهاية عصر الرعامسة " فالعيد المحلي في
مصر هو المناسبة التي تتيح للإنسان أن يتصل بالإله حتى يعمل على تحسين مستوى حياته
، فالإله هنا يتنبأ و يعد بالأفضل من خلال " وحي " . و ظاهرة الوحي هي
نوع من أنواع العرض الديني المسرحي ، إلا أن الوعي الشعبي المصري القديم لم يكن
يرى في مثل هذه العروض أي صورة خادعة ، فالوحي الذي يمارس خلال عيد المعبود لم يكن
عرضا خادعا في الذهنية النفسية الشعبية ، بل هو " إخراج مسرحي لإستحضار الإله
" في الزمن الحاضر مثلما كان حاضرا و بشكل مباشر في الزمن الأول . العيد هنا
هو عودة للزمن الأول الذي كان يحكم فيه الإله مباشرة أرض مصر .
من جانب آخر يمكن لنا أن نستشف السبب الرئيسي
الذي جعل اللامركزية تظهر و كأنها الحل السياسي الأمثل و الأفضل خلال ذلك العصر ،
فمع وجود سلطة مركزية لا يتمكن الملك من تموين الأقاليم و المدن بما تحتاجه فيظهر
كبار المدن و الأقاليم من ذوي المكانة الإجتماعية المرموقة لكي يسدوا هذا الفراغ .
فظهور السلطة المحلية المستقلة في هذا السياق التاريخي لا يكتس أي شرعية سياسية أو
دينية إلا من خلال " سد حاجات المجتمع المحلي " و لم يكن عصر اللامركزية
الثالث في هذه النقطة تحديدا يختلف كثيرا عن عصر اللامركزية الأول . و لذلك السبب
لا نندهش على الإطلاق عندما نجد نصوص السير الذاتية في مقابر كبار الأفراد في زمن
اللامركزية الثالث و قد تم إقتباسها بشكل حرفي من نصوص السير الذاتية لحكام
الأقاليم في زمن اللامركزية الأول . و لعل ذلك الأمر يعكس حقائق بارزة الأهمية و
هي :
1 – أن عصر اللامركزية الثالث وضع البذور
الأولى لمفهوم العودة للماضي بزيارة و إنتقاء مقابر قديمة و إقتباس نصوص منها تكشف
عن إحساس الإنسان بتميزه الإجتماعي ، فلم تكن هذه المقابر تنتمي لا لعصر الدولة القديمة و لا الوسطى و لا
الحديثة نظرا لأن النصوص التي تحتويها تخالف أيدولوجيا زمن اللامركزية الثالث .
2 – كان المرء و من خلال قراءته الجيد لتلك
النصوص يشعر بأن له قرابة مع الجماعات البشرية التي عاشت خلال زمن اللامركزية
الأول كما كان يرى فيهم " قدوة إجتماعية و أدبية " فاتخذ من صورتهم شكلا
إجتماعيا وجيها لتصوير و عرض نفسه أمام الجماهير .
3 – إستمرت هذه الوجاهة الإجتماعية خلال
الزمن اللاحق أي خلال العصر المتأخر و إنتقلت إلى " النخب الكهنوتية "
التي سعت و بشكل مباشر لإظهار تميزها الإجتماعي أمام الداخل " عامة الشعب
" و أمام الخارج " الأجنبي الفارسي المحتل " .
4 – إحياء نصوص و أفكار و مفاهيم و معتقدات
زمن اللامركزية الأول لأول مرة في الحضارة المصرية و ذلك بعد أن كان ذلك الزمن غير
مرضي عنه في ذاكرة الثقافة المصرية منذ الدولة الوسطى و حتى نهاية الدولة الحديثة
. " علينا هنا أن نتذكر كيف سعت النصوص الرسمية لعصر الدولة الوسطى لإبراز
صورة سلبية عن شكل الحكم اللامركزي و ما نتج عنه من أزمات إجتماعية " – إلا
أن ذلك لا يعني أيضا أنهم إكتفوا بإحياء مفاهيم ذلك العصر فقط بل يمكن القول بأنهم
إتجهوا كذلك ناحية إحياء المفاهيم الثقافية لعصر الدولة الحديثة فاقتبسوا من ذلك
الماضي القريب " و هو زمن الدولة الحديثة " ما يثبت و يدعم سلطتهم
السياسية و الدينية و الإجتماعية بين الناس
هل يمكن لنا أن نحدد و بشكل أكثر وضوحا ماهية
الديناميكية التاريخية للسياسة المصرية القديمة قبل و خلال عصر اللامركزية الثالث
و ما طرأ عليها من متغيرات تاريخية و ثقافية ؟ ......
تأرجت هذه الديناميكية ما بين نموذجين
سياسيين و هما :
1 – النموذج التقليدي للسلطة الملكية و الذي
يتمثل في مفهوم " الوحدة " السياسية المركزية و " و التعدد "
و " التميز " على مستوى الوظائف و المناصب فلا يظهر الملك وفقا لهذا
النموذج و هو محتكر لكل المناصب بل يقوم بتعيين أفراد بعينهم في وظائف محددة
يدينون له بالولاء .
2 – نموذج " التوازي السلطوي " وهو
النموذج الذي إبتدعه حريحور و سار عليه معظم ملوك و أمراء عصر اللامركزية الثالث و
يتمثل في مفهوم وجود " سلطات محلية متوازية " و تحتكر كل سلطة منها جميع
الوظائف و المناصب الهامة على نمط واحد وتيرة متشابهة .
و يمكن القول أن النموذج الأول كان يمكن
تطبيقه في بعض الأحيان خلال زمن اللامركزية الثالث و لا سيما في عصر الأسرة 21 و
تحديدا في عهد " باي نجم " الأول في طيبة و " با سبا خع إم نيوت
" في تانيس . فهنا نجد كبير كهنة آمون " باي نجم " و قد إستخدم لقب
الملك و بصورة واضحة أما " با سبا خع إم نيوت " فقد إتخذ لنفسه لقب كبير
كهنة آمون في تانيس و بهذه الطريقة تمت الموازاة السياسية و الدينية بين طيبة و
تانيس و قد أتى هذا النموذج بثماره و ذلك بسبب أن كلا الحاكمين كانت لهما قرابة
تجمعهما من خلال الزواج الدبلوماسي ( فقد كان باي نجم متزوجا من بنت با سبا خع إم
نيوت ) . و لهذا السبب يمكن طرح هذه النتيجة :
لا يمكننا إعتبار ذلك العصر بأنه كان لا
مركزيا طوال الوقت ، فهناك بعض الحالات التاريخية الإستثنائية التي حاولت العودة
للنوذج السياسي الأول و من أمثال تلك الحالات الإستثنائية كان هناك الملك "
شاشانق الأول " مؤسس الأسرة 22 و الذي سعى بكل ما أوتي من قوة نحو سياسة
القضاء التام على مفهوم " الحكم الفردي المستقل لدولة الإله في طيبة " و
ذلك من خلال إتباع الإجراءات التالية :
1 – منع وراثة منصب كبير كهنة آمون في طيبة
من الأب إلى الإبن .
2 – قام بتطبيق قاعدة سياسية جديدة : أن
يعتلي هذا المنصب أحد أبناء الملك الحاكم و الذي كان مستقرا في الشمال .
3 –
منع زواج كبير كهنة آمون " و هو إبن الملك الحاكم في الشمال " من زوجة
الإله آمون و كاهنته الأولى " و التي كانت أيضا بنت الملك نفسه " فأصبحت
ذات شأن كبير في طيبة و لاسيما و أنها كانت تتولى بنفسها إقامة الطقوس و تقديم
القرابين لزوجها المعبود آمون .
لقد كان الهدف من هذه الإجراءات هو : القضاء
على نفوذ كهنوت آمون و عدم إعطاء الفرصة للعائلات الكهنوتية القديمة أن تعود مجددا
للمشهد السياسي أو الديني .
إلا أن نموذج " التوازي السلطوي "
عاد و بقوة في عصر الملك " تاكلوت الثاني " في الأسرة 22 و ذلك بعد
إندلاع حرب أهلية بين تل بسطة و طيبة فبعدما قام هذا الملك بإرسال إبنه "
أوسركون " لكي يشغل منصب كبير كهنة آمون في طيبة واجه مقاومة عسكرية شرسة
بقيادة كهان آمون الذين قادوا شعب طيبة للوقوف ضد هذا الأمير و جيشه . و عندما وصل
" أوسركون " بجيشه لمدينة طيبة واجه " حور سا إيسه " الثاني
حفيد " حور سا إيسه " الأول و الذي شغل منصب كبير كهنة آمون في النصف
الثاني من الأسرة 21 فاندلعت حرب أهلية بين الفريقين دامت عشر سنين و هناك نص
الكرنك الشهير الذي تناول هذه الواقعة بعد إنتصار أوسركون المؤقت و الذي يتحدث عن
قيام إنتفاضة في طيبة ضد " حماة البلد " و عن وصول أوسركون إلى طيبه و
تحقيقه الإنتصار بل و إستقباله الحافل – وفقا لما ورد في النص – من جانب الكهنة ،
فنقرأ خطاب الكاهن الطيبي الموجه لأوسركون قائلا له :
" أنت الحارس الشجاع لكل الآلهة و قد
إختارك آمون كأكبر إبن منحدر من سلالته . لقد إصطفاك من بين مئات الألوف و ذلك لكي
يحقق رغبته القلبية و لقد بعثك إلينا لتدفع عنا السوء و أن تنهي العاصفة التي
تهددنا فقد كاد أن يغرق هذا البلد و كادت تنهار قوانينه بسبب المتمردين الذين
تمردوا على سيدهم فقد أباد كل كاتب في معبده أوامره و كل ذلك قد حدث دون علم الملك
" ثم " جاءوا بالسجناء كحزمة مربوطة فصرعهم أمام آمون و أحرقهم بالنار
في مكان جريمتهم " .
هناك مجموعة من الحقائق يمكن لنا أن نستشفها من هذا النص و هي :
1 – يكشف هذا النص عن تمرد فعلي قام به كهنة
و شعب طيبة ضد الملك الشمالي بل و يعكس وجود صراع عسكري مسلح تم و لأول مرة في
مدينة تمتعت بشهرة عالية و مكانة دينية مقدسة لدى أهلها مما كان له أثرا نفسيا
سلبيا ظل في ذاكرة هذه المدينة لفترة طويلة من الزمن .
2 – عوقب مجموعة من الكهنة الطيبيين الذين
تمردوا على حكم ملك الشمال " مثلما ورد في النص و لأول مرة " بإحراقهم و
هم أحياء و ليس هناك مثيلا لهذا النوع من القتل و عدا ذلك فإن العقاب بالنار يأتي
فقط في شعائر قتل و حرق الأعداء رمزيا في المعابد المصرية القديمة . " و
التساؤل هنا : ما هو مدى السيطرة الفعلية لملوك الأسرة 22 على مدينة طيبة ؟ من هم
ملوك الأسرة 22 الذين سجلت أسمائهم على آثار طيبة ؟
3 – منذ أن ذكر هذا النص مفهوم عقاب الأعداء
و حرقهم بالنار و بشكل فعلي ، إنتشر أدب " ضروب اللعنات " و "
الحرق بالنار " في الكتابات و النصوص الخاصة بعصر اللامركزية الثالث فنقرأ في
كتابات ذلك الزمن : " إن الذي يطعن في المرسوم الذي سنيته أنا ، يجب أن يحال
إلى غضب آمون رع ليستعر بنار الإلهة موت عندما تستعر و يجب أن لا يخلفه إبنه
"
4 - على ضوء هذه الإجراءات التي وردت في النص
، يمكن أن ندرك كيفية تعامل ملوك ( تل بسطة و تانيس ) مع المعارضة الطيبية و
محاولتهم تثبيت مثل هذه النصوص على جدران المعابد لإدخال الرعب و الفزع في قلوب
المتمردين بل و تثبيت و تسجيل مثل هذا العقاب في موقع مقدس بهدف " إضفاء
شرعية قانونية ذات صبغة دينية " على عقاب المتمرد ضد الحاكم ( نشير هنا أيضا
إلى أن تسجيل عقاب الأعداء كنصوص و مناظر هي فكرة معروفة منذ عصر الدولة القديمة
على أقل تقدير ) .
5 – ظهور بعض العبارات غير التقليدية في هذا
النص تكشف عن وجود متغيرات ثقافية لغوية مثل " أنت الحارس الشجاع لكل الآلهة
" و " فقد إختارك آمون كإبن أكبر من سلالته " و غيرها من العبارات
التي تكشف عن وجود تغير فعلي في الثقافة الملكية المصرية في عصر اللامركزية الثالث
و يتزامن هذا التغير مع وجود ملوك و أمراء ظلوا يحتفظون بأسماء شخصية غير مصرية
مثل " شاشانق " و " تاكلوت " و " أوسركون " فضلا عن
إحتفاظهم بريشة الزعماء التي كانت توضع على رؤوسهم و ظهرت في التصوير الأيقوني
الفني لذلك العصر و هي بلا شك معطى حضاري غير تقلديدي و لا ينتمي للأيدولوجية
الملكية المصرية . فأسركون لم يظهر في طيبة بوصفه " ملك مصر العليا و السفلى
" بل ظهر بصفته زعيما للمشاشا ( أو الماشواش ) و يستخدم عبارات غير تقليدية
في نفس النص قائلا لآمون : " أنت سوف تشكل نسلي ، النطفة التي تخرج من أعضائي
، حكاما كبارا لمصر ( نلاحظ هنا عدم إستخدامه للقب النسو بيتي على الإطلاق ) و
أمراء و كهانا أوائل لآمون رع ملك الآلهة ( يحتكر المعبود آمون لقب الملك بمفرده )
و زعماءا كبارا للمشاشا ( يعترف أوسركون هنا بوجود زعماء آخرين في مناطق أخرى بل و
يسعى لتثبيت ذلك النظام في المعبد ) و كهانا للإله حور سا إيسة " و هنا
نتساءل مرة أخرى : هل يمكن لنا أن نخدش السطح الظاهري للتركيبات الثقافية للسلطة
آنذاك لكي نتعرف على مدى تمصر هؤلاء الملوك فعليا ؟ ...
على أية حال يمكن لنا أن ندرك حقيقة هامة
وفقا لما ورد في مضمون هذا النص و تتمثل في :
أن التمرد
هنا قادم من " أعلى " و ليس من " أسفل " فمعظم نصوص عصر
اللامركزية الثالث تتحدث عن تمرد قام به الكهنة ضد الإله نفسه ! و لم نعد نسمع هنا
عن تحدي أو تمرد قام به الشعب المصري ضد الملك أو الإله ، فالملك يسعى لمكافحة من
يريدون أن يتمردوا على الإله في معبده و لهذا يقول : " فقد أباد كل كاتب في
معبده أوامره " و لاشك أن ذلك يحمل في طياته المفاهيم الأيدولوجية السياسية
لذلك العصر .
هل أصاب التمرد الطيبي ضد ملوك الأسرة 22
قدرا - و لو يسيرا - من النجاح ؟ ... يمكننا أن نستشف الإجابة من خلال تسجيل
إرتفاع منسوب فيضان النيل عند مرسى الكرنك في عصر الأسرة 22 حيث نجد أن غريم
أوسركون و هو حور سا إيسة الثاني كان لا يزال يشغل منصب " كبير كهنة آمون "
حتى العام السادس من حكم الملك " شاشانق الثالث " و نستنتج من ذلك بأن
التمرد المذكور كان ناجحا بالفعل . ( تناول الدارس في مقال سابق مظاهر الصراع
التاريخي بين طيبة و ملوك الأسرة 22 ) .
أدت هذه الحرب الأهلية إلى توابع و حركات
تاريخية هامة و هي :
1 – قيام الأمير " شاشانق الثالث "
بالخروج عن سلطة تانيس و تل بسطة و إعلانه عن تأسيس سلطة ملكية جديدة ( تأسيس
الأسرة 23 ) في تل المقدام ( محافظة الدقهلية ) و إنشائه لتقويم ملكي جديد و
تتويجه كملك هناك .
2 – تحالف هذا الملك مع كهنة طيبة ضد ملوك
الأسرة 22 و هو ما أدى لإعتراف كهنة آمون بملوك الأسرة 23 بتسجيل أسمائهم على
جدران الكرنك بل و إنشائهم المقصورة الشهيرة للمعبود أوزير " حقا جت " و
التي صور فيها كهنة آمون ملكي من ملوك الأسرة 23 و هما " أوسركون الثالث
" و " تاكلوت الثالث " مع بعضهما البعض على شجرتي الإيشد حيث تم
تصوير أحدهما أمام آمون و الآخر أمام آتوم حيث كان يهدف مثل هذا التصوير إلى تثبيت
شرعية هؤلاء الملوك في طيبة و ضمان نقل و توارث الملكية بشكل شرعي من الأب (
أوسركون الثالث ) إلى الإبن ( تاكلوت الثالث ) .
3 – ظهرت " إنقسامات سياسية مختلفة
" أفضت إلى وجود " ملكيات و زعامات متعددة " حيث ظهرت أكثر من 20
عائلة في الحكم و منهم من حمل لقب " ملك " و هم الأقل عددا و منهم من ظل
يعبر عن سلطته بلفظ " زعيم الما " أي زعيم الماشواش ( المشاشا ) . و
نذكر هنا أيضا قيام الأسرة 24 في منطقة سايس و التي إنشقت هي الأخرى عن الأسرة 22 –
أنظر مقال دكتور جاب الله و كتشين عن التفاصيل التاريخية لعصر اللامركزية الثالث .
4 - رغم وجود تحالف سياسي بين ملوك الأسرة 23
و كهنة طيبة إلا أن ذلك لا يعني أن ملوك تلك الأسرة تركوا منصب " كبير كهنة
آمون " للعائلة الكهنوتية الطيبية القديمة ، بل قام الملك " أوسركون
الثالث " – الذي تم تصويره كملك في مقصورة " أوزير حقا جت " –
بتعيين إبنه الأمير " تاكلوت الثالث " ( حيث كان يشغل منصب كبير كهنة
هيراكليوبوليس – إهناسيا ) ككاهن أول للمعبود آمون فضلا عن إحتفاظه بمنصب كبير
كهنة إهناسيا .
5 – سعى ملوك الأسرة 23 لإعادة تنظيم "
دولة الإله في طيبة " بهدف : منع عودة الإضطرابات السياسية مرة أخرى و ذلك من
خلال وضع شكل جديد لمنصب ( زوجة الإله آمون – و هو لقب معروف منذ عصر الدولة
الحديثة على أقل تقدير ) فقام الملك أوسركون الثالث بتعيين إبنته " شب إن وبت
" التي صورت في مقصورة المعبود " أوزير حقا جت " كزوجة لآمون و كان
ذلك هو أعلى منصب في دولة الإله في طيبة و إحتكرت لنفسها سلطة إقامة الشعائر
بمفرها للمعبود آمون كقرينة له و لم يكن يحق لأي فرد أن يتزوجها و لذلك فقد ظلت "
عذراء " و عندما قام تاكلوت الثالث بالإشتراك في الحكم مع أبيه أوسركون
الثالث تعمد الملك أوسركون الثالث أن يترك منصب كبير كهنة آمون شاغرا و وضع إبنته
في منصب قرينة الإله و كانت هذه الإجراءات تهدف إلى منع أنصار آمون نحو العودة
لمنصب الكهنوت مرة أخرى .
و هنا نشير إلى أن الملك أوسركون الثالث لم
يكن في حسبانه أنه بعدما قام بتجريد أتباع آمون من منصب كبير الكهنة ، أنهم
سيتجهوا لشغل الوظائف المدنية و العسكر